عنوان الموضوع : تحليل رواية اللص والكلاب -تعليم سعودي
مقدم من طرف منتديات نساء الجزائر

تحليل رواية اللص والكلاب




الوصف في الرواية:

ينصب الوصف على الأشخاص والأمكنة والأشياء والوسائل، وله وظائف جمالية ودلالية وتوضيحية تفسيرية. ويقوم الوصف بتمثيل الموجود مسبقا ومحاكاته من أجل الإيهام بوجوده الحقيقي والمرجعي( الإيهام بالواقعية). ويهتم الوصف في الرواية الواقعية بتحديد المجال العام الذي يتحرك فيه الأبطال. ويعني هذا أن الوصف يستخدم في تحديد الخطوط العريضة لديكور الرواية، ثم لإيضاح بعض العناصر التي تتميز بشيء من الأهمية.
ومن العناصر التي تم التركيز عليها وصفا وتشخيصا وتجسيدا تصوير الشخصيات فيزيولوجيا واجتماعيا وأخلاقيا ونفسانيا، كوصف سناء التي أثارت أباها سعيد مهران بوجودها الرائع ؛ لأنه ترك بنته الوحيدة وهي طفلة صغيرة بين الأيدي الخائنة:” وعندما ترامى وقع الأقدام القادمة ، خفق قلب سعيد خفقة موجعة وتطلع إلى الباب وهو يعض على باطن شفتيه. مسح تطلع شيق وحنان جارف جميع عواصف الحنق. وظهرت البنت بعينين داهشتين بين يدي الرجل، ظهرت بعد انتظار طال ألف سنة. وتبدت في فستان أبيض أنيق وشبشب أبيض كشف عن أصابع قدميها المخضبتين. وتطلعت بوجه أسمر وشعر أسود مسبسب فوق الجبين فالتهمتهما روحه.”
ويصف الكاتب رؤوف علوان ساخرا من مبادئه الزائفة وثورته الواهمة التي ذهب ضحيتها كثير من الأبرياء والفقراء والبؤساء وزجوا بهم في السجن من أجل أن يستفيدوا من المناصب السامية ويقتسموا الثروة ليعيش الآخرون جوعا وفاقة:” رؤوف علوان، خبرني كيف يغير الدهر الناس على هذا النحو البشع؟! الطالب الثائر. الثورة في شكل طالب. صوتك القوي يترامى إلي عند قدمي أبي في حوش العمارة، قوة توقظ النفس عن طريق الأذن،عن الأمراء والباشوات تتكلم. وبقوة السحر استحال السادة لصوصا. وصورتك لاتنسى وأنت تمشي وسط أقرانك في طريق المديرية بالجلابيب الفضفاضة وتمصون القصب… وكنت بين المستمعين لك عند النخلة التي نبتت عند جذورها قصة حبي وكان الزمان ممن يستمعون لك. الشعب… السرقة… النار المقدسة. الثروة…الجوع….العدالة المذهلة. ويم اعتقلت ارتفعت في نظري إلى السماء. وارتفعت أكثر يوم حميتني عند أول سرقة. ويوم رد حديثك عن السرقة إلي كرامتي. ويوم قلت لي في حزن” سرقات فردية لا قيمة لهان لابد من تنظيم!”. ولم أكف عن القراءة والسرقة بعد ذلك. وكنت ترشدني إلى السماء الجديرة بالسرقة. ووجدت في السرقة مجدي وكرامتي. وأغدقت على أناس كان من بينهم للأسف عليش سدرة.”
ووصف الكاتب عليش سدرة و زوجته نبوية وخليلته نور في عدة مواضع من الرواية عبر مستويات خارجية واجتماعية وأخلاقية ونفسية تكشف لنا انتهازية عليش وخيانة رؤوف علوان ومكر نبوية واستهتار نور وصفاء الشيخ الجنيدي ونكران سناء لأبيها الخارج من السجن .
وينقل لنا الكاتب أمكنة متناقضة ، البعض منها يوحي بالغنى والثراء كڤيلا رؤوف علوان الغاصة بالأشياء الثمينة، والبعض الآخر يوحي بالفقر والفاقة والخصاص كشقة نور.
وإليكم مقطعا وصفيا يتداخل فيه وصف المكان ووصف الأشياء لتجسيد التفاوت الطبقي والصراع الاجتماعي:” وأضاء خادم النجفة بصر سعيد بمصابيحها الصاعدة ونجومها وأهلتها. وعلى ضوئها المنتشر تجلت مرايا الأركان عاكسة الأضواء، وتبدت التحف الثاوية على الحوامل المذهبة كأنها بعثت من ظلمات التاريخ، وتهاويل السقف وزخارف الأبسطة والمقاعد الوثيرة والوسائد المستقرة عند ملقى الأقدام. وأخيرا استقر البصر على وجه الأستاذ الممتلئ المستدير، ذلك الوجه الذي طالما عشقه وحفظه عن ظهر قلب لطول ما أحدق فيه منصتا. وبينا راح الخادم يفتح بابا مطلا على الحديقة في الجدار الأيسر ويكشف عنه ستائره مضى وهو ينظر إلى الأستاذ ويلحظ الروائع مسترقا.”
و يلاحظ أن الكاتب لم يفصل كثيرا في وصف شخصياته وأماكنه وأشيائه كما كان يفعل بلزاك وستندال وفلوبير، بل اكتفى بفقرات موجزة ومقاطع موحية. ولكن وصفه لم يكن مقلا كما هو الحال عند الروائيين الجدد والذي كان يتسم بالإضمار والحذف والاختزال. وقد أحسن نجيب محفوظ وصف الأشياء التي تشير إلى تبرجز المجتمع العربي وشروعه في التأثيث وتملك الأشياء واقتناء التحف والأدوات الثمينة.


>>>>> ردود الأعضـــــــــــــــــــاء على الموضوع <<<<<
==================================


1. الرؤية السردية:
يستند الكاتب في رواية ” اللص والكلاب ” إلى الرؤية من الخلف واستعمال ضمير الغائب والسارد المحايد الموضوعي الذي لايشارك في القصة كما في الرؤية من الداخل، بل يقف محايدا من الأحداث يصف ويسرد الوقائع بكل موضوعية . ويشبه هذا السارد الإله الخفي ؛ لأنه يملك معرفة مطلقة عن الشخصيات ويعرف كل شيء عن شخصياته المرصودة داخل المتن الروائي خارجيا ونفسيا، إذ يزيل سقوف الشقق وجدران الغرف من أجل أن يدخل إلى البيوت لاستكناه أفعالهم وتصوير مشاعرهم الداخلية:” وجلس عند النخلة يشاهد صفي المريدين تحت ضوء الفانوس ويقضم دومة وينعم بسعادة عجيبة. وكان ذلك سابقا لنزول أول قطرة حارقة من شراب الحب. وأغمض الشيخ عينيه فكأنه نام. وألف هو المنظر والجو حتى البخور لم يعد يشمه. وطرأت فكرة بأن العادة أساس الكسل والكلل والموت. وهي المسؤولة عما عانى من خيانة وجحود وضياع جهد العمر سدى”.
ويتبين لنا من هذا المقطع أن الكاتب يستعمل الرؤية من الخلف وضمير الغائب ورصد ماهو خارجي وماهو داخلي، كما أن الراوي محايد ينقل لنا الحدث والشخصيات والفضاء من مكان ما قد يكون قريبا أو متوسطا أو بعيدا.
ومن وظائف السارد في الرواية السرد والحكي، وهذه هي الوظيفة الأساسية للسارد، ووظيفة التنسيق بين الشخصيات، ووظيفة الوصف من خلال تشخيص الشخصيات ووصف الأمكنة والأشياء ، ووظيفة النقد التي تتجلى في نقد الواقع وتشخيص عيوبه ومساوئه الكثيرة ولاسيما تفاوته الاجتماعي والطبقي الذي ينم عن انعدام العدالة الاجتماعية في المجتمع المصري إبان الثورة الاشتراكية. وهناك الوظيفة الإيديولوجية التي تكمن في نقد التيار الاشتراكي والتجربة الناصرية التي ترتبت عنها خيانة المبادئ الاشتراكية الكبرى والتعريض بالذين خانوا الثورة باسم العدالة الاجتماعية والثورة على الملاكين الكبار ومحاربة الطبقية.
وثمة وظائف أخرى يقوم بها السارد يمكن حصرها في وظيفة التقويم والتعليق، ووظيفة الانفعال، ووظيفة التأثير، ووظيفة تصوير المرجع الواقعي.
1. الزمن السردي:
يلاحظ أن الزمن السردي في الرواية زمن صاعد خطي ينطلق من حاضر الخروج من السجن إلى مستقبل الاستسلام والموت. بيد أن هذا الزمن ينحرف تارة إلى الماضي لاسترجاعه( فلاش باك)، أو إلى المستقبل من أجل استشرافه.
ومن المقاطع السردية الدالة على الاستشراف المستقبلي الذي يحضر غالبا في شكل أحلام مستقبلية:” فلم يستطع جوابا، إلى هذا الحد بلغ منه الإعياء. وأقام الشيخ الصلاة، وما لبث سعيد أن غاب عن الوجود. حلم بأنه يجلد في السجن رغم حسن سلوكه، وصرخ بلا كبرياء وبلا مقاومة في ذات الوقت. وحلم بأنهم عقب الجلد مباشرة سقوه حليبا، ورأى سناء الصغيرة تنهال بالسوط على رؤوف علوان في بئر السلم. وسمع قرآنا يتلى فأيقن أن شخصا قد مات. ورأى نفسه في سيارة مطاردة عاجزة عن الانطلاق السريع لخلل طارئ في محركها واضطر إلى إطلاق النار في الجهات الأربع، ولكن رؤوف علوان برز فجأة من الراديو المركب في السيارة فقبض على معصمه قبل أن يتمكن من قتله وشد عليه بقوة حتى خطف منه المسدس، عند ذاك هتف سعيد مهران: اقتلني إذا شئت ولكن ابنتي بريئة، لم تكن هي التي جلدتك بالسوط في بئر السلم وإنما أمها، أمها نبوية وبإيعاز من عليش سدرة.”
ومن المقاطع الدالة على استرجاع الماضي القائم على التذكر والاستدعاء قصد التلذذ بذكرياته أو الثورة عليه نقمة ورفضا:” وانتظرت عند النخلة الوحيدة في نهاية الحقل حتى قدمت نبوية فوثبت نحوها وقلت لها: لاتخافي، يجب أن أكلمك، أنا ذاهب، سأجد عملا أوفر ربحا، وأنا احبك، لاتنسيني أبدا، أنا أحبك وسأحبك دائما وسوف أثبت لك أني قادر على إسعادك وعلى فتح بيت محترم لك. وفي تلك الأيام كانت الأحزان تنسى والجروح تلتئم والأمل يحصد الصعاب، فيا أيتها القبور الغارقة في الظلمة لا تسخري من ذكرياتي!
ونهض من استلقائه فجلس على الكنبة في الظلام وخاطب رؤوف علوان كأنه يراه أمامه قائلا في سخرية:
• لو قبلت أن اعمل محررا في جريدتك يا وغد لنشرت فيها ذكرياتنا المشتركة ولخسفت نورك الكاذب…”


__________________________________________________ __________

ويظهر لنا أن نجيب محفوظ يستفيد من تقنيات الرواية الجديدة ومن آليات السرد الموجودة عند أعضاء تيار الوعي كاستخدام فلاش باك واستشراف المستقبل وتوظيف الخطاب الحلمي الدال على الغضب والهذيان والتناتوس اللاشعوري الناتج عن الثأر والانتقام.
و يزاوج الكاتب على مستوى الإيقاع بين السرعة والبطء، ويتجلى إيقاع السرعة في الحذف والتلخيص، أما إيقاع البطء فيكمن في الوقفة الوصفية والمشاهد الدرامية.
فمن مظاهر الحذف الزمني خروج سعيد مهران من السجن بعد سنوات عديدة لم يذكر لنا الكاتب أي شيء عنها في الرواية ليترك الكاتب الأحداث تنساب بسرعة تارة، وببطء تارة أخرى، حيث يتوقف عند لوحات وصفية يلتقط فيها صور بعض الشخصيات كسناء وعليش ونبوية والشيخ الجنيدي ونور ورؤوف علوان، لينتقل من ثم، إلى ذكر بعض المشاهد الدرامية كمشهد المطاردة بين المقابر، ومشهد دخول سعيد إلى ڤيلا رؤوف علوان، ومشهد مهاجمة بيت عليش، ومشهد ضرب الشاب الذي كان يختلي بنور، ومشهد توقيف المعلم بياضة لمحاسبته، و المشهد الذي كان يتبادل فيه الحوار مع المعلم طرزان، و المشاهد الروحانية التي كان يستسلم فيها لوازع الدين والحب الرباني.
1. الصياغة الأسلوبية:
وظف نجيب محفوظ في روايته عدة أساليب سردية لنقل الأحداث والتعبير عن مواقف الشخصيات. ولقد أكثر من السرد ليقترب من الواقع أكثر لمحاكاته وتسجيله وتشخيصه بطريقة تراجيدية. وفي نفس الوقت، يلتجئ إلى الحوار قصد معرفة تصورات الشخصيات وتناقض مواقفها الإيديولوجية. كما التجأ أيضا إلى المنولوج للتعبير عن صراع الشخصيات وتمزقاتها الداخلية ذهنيا ونفسيا. ويحضر أسلوب سردي آخر يسمى بالأسلوب غير المباشر الحر الذي يختلط فيه كلام السارد مع كلام الشخصية وهو كثير بين ثنايا الرواية:” آن للغضب أن ينفجر وأن يحرق، وللخونة أن ييأسوا حتى الموت، وللخيانة أن تكفر عن سحنتها الشائهة. نبوية عليش، كيف انقلب الاسمان اسما واحدا؟ أنتما تعملان لهذا اليوم ألف حساب، وقديما ظننتما أن باب السجن لن ينفتح، ولعلكما تترقبان في حذر، ولن أقع في الفخ، ولكني سأنقض في الوقت المناسب كالقدر. وسناء إذا خطرت في النفس انجاب عنها الحر والغبار والبغضاء والكدر. وسطع الحنان فيها كالنقاء غب المطر. ماذا تعرف الصغيرة عن أبيها؟ لاشيء.”
وعلى الرغم من كل هذه الأساليب، فإن السرد يبقى هو المهيمن على غرار الروايات الواقعية والوجودية، كما استعان الكاتب بالوصف أثناء تقديم الشخصيات والأمكنة والأشياء والوسائل وتحيين المشاهد الدرامية.
وتمتاز لغة نجيب محفوظ بكونها لغة واقعية تصويرية تستند إلى تسجيل المرجع وتمويهه بلغة تتداخل فيها الفصحى والعامية المصرية ليقترب أكثر من خصوبة الواقع العربي المصري. لذالك استعمل الكاتب تعابير العامية المصرية وأساليبها وألفاظها وصيغها المسكوكة. كما استعمل قواميس تدل على حقول دلالية مثل: حقل الأثاث، وحقل الطبيعة، وحقل الدين والتصوف، وحقل الصحافة والإعلام، وحقل السلطة والجريمة، وحقل الوجود و العبث، وحقل القيم، وحقل المجتمع، وحقل السياسة….
وعلى الرغم من استخدام اللغة الطبيعية الواقعية المباشرة التي تنبني على الخاصة التقريرية الجافة الخالية من كل رونق بلاغي وشاعري، إلا أن الكاتب يوظف في بعض الأحيان تعابير قائمة على المشابهة ( التشبيه والاستعارة) ، والمجاورة( المجاز المرسل والكناية)، واستعمال الرموز (اللصوص والكلاب…) لتشخيص الأحداث والمواقف وتجسيدها ذهنيا وإحاليا وجماليا.
ويشغل الكاتب جملا بسيطة ومركبة، وغالبا ماتكون الجمل الروائية جملا فعلية بفواصل قصيرة، تنمي مسار الأحداث وتؤزمها، وقد أورد الكاتب هذه الجمل ليحبك الأحداث ويحقق حركية السرد وتطوره الدرامي و يثري توتره على مسار الحبكة السردية والعقدة القصصية.
ويلاحظ أن نجيب محفوظ قد استفاد من التقنيات الغربية على مستوى الكتابة الروائية ( المنولوج، والأسلوب غير المباشر الحر، وفلاش باك، واستشراف المستقبل…)، وفي هذا الصدد يقول نجيب محفوظ:” كانت كل الأساليب أمامنا في وقت واحد. فعندما نشرع في الكتابة قد نستفيد من أي الطرق التي عرفناها ودخلت في آلية المنسي عندنا بدون وعي. فعندما أكتب قد استفيد من الواقعي التقليدي من الواقعي الحديث، من تيار الوعي….من…من…لأنني قرأت كل هذا في فترة واحدة بمعنى أن التجارب التي عاشتها أوربا في مائتي سنة أو ثلاثمائة سنة اطلعت عليها أنا في عشر سنوات، وبهذه الطريقة استفدت من أكثر من أسلوب روائي ومن كل في لحظة أي في اللحظة المناسبة.”
ويقول نجيب محفوظ أيضا في هذا السياق:” عندما لم أكن أقع تحت تأثير أحدهم، ولم تبهرني الإنجازات التكنيكية الحديثة. تخيل لو أنني كنت تأثرت به” جويس” وحاولت أن أنهج نهجه في تيار الوعي. لقد قرأت يوليسيز في أواسط الثلاثينيات لكنني عندما بدأت الكتابة كنت أطرح هذا كله وأنهج منهجا واقعيا…”.
ولقد بدأ نجيب محفوظ كتاباته الروائية الأولى معتمدا على السرد والنص والوصف ، وكان يتحاشى المنولوج الداخلي ويتجنبه لمجافاته للرؤية التي يقدمها. ومن ثم، اعتمد محفوظ على لغة تشخيصية حديثة تزاوج بين الفصحى والعامية المصرية، وبذلك تخلصت لغته من البيان التراثي والأساليب العربية الركيكة التي عرفتها الرواية العربية في القرن التناسع عشر الميلادي.


__________________________________________________ __________

1. الأبعاد النفسية و المرجعية في الرواية:
ببدو سعيد مهران شخصية غير متوازنة وغير متزنة بسبب كثرة أخطائها في إصابة أهدافها، كما أنها شخصية إشكالية تتأرجح بين الذات والموضوع، وتعاني من الصراع الداخلي ومن التمزق النفسي الناتجين عن خيانة زوجته نبوية وصديقه عليش سدرة وأستاذه رؤوف علوان الذي كان يعلمه النضال والثورة على الفقر عن طريق سرقة الأغنياء بطريقة فردية أو بطريقة جماعية منظمة، وكان منبهرا بصوته الثوري القوي وبمبادئه الاشتراكية الرائعة التي تسوي بين الفقراء والأغنياء في تقسيم ثروة الوطن وتوزيعها بعدالة على الشعب وأبناء المجتمع، بيد أن هذه الشعارات كانت جوفاء فارغة من كل معنى.
وعليه، فسعيد مهران بخروجه من السجن صار شخصية أخرى تريد الانتقام والثار ، أي أصبحت شخصية عدوانية حاقدة جاءت لتشعل النار في أجساد الخائنين والماكرين الخادعين الذين زجوا به في السجن كيدا وخديعة. ومن ثم، يتسلح سعيد مهران بالمسدس ليصفي حساباته مع كل الأوغاد الذين فرطوا في قيم التلمذة والصداقة و المحبة. لذا، يتحول سعيد إلى شخصية عدوانية عابثة ترى الوجود كله يأسا وسأما وعبثا بلا معنى ولا جدوى.
ويلاحظ أن التناتوس ( الموت أو الغرائز العدوانية ) هو الذي كان يحرك سعيد مهران شعوريا ولاشعوريا ، وهو الذي كان يدفعه لتصفية الحسابات مع الخونة والقضاء على حياتهم، ولكن شخصية مهران لم تكن تخطط جيدا لأهدافها. ومن ثم، كان قتله للأبرياء والبوابين دليل على مدى عبثية حياته ولا جدوى وجوده.
ومن ناحية أخرى، كان نجيب محفوظ ينتقد التجربة الاشتراكية الناصرية والضباط الأحرار والتابعين لنهجهم الذين كانوا يطلقون شعارات وطنية ثورية إبان مرحلة الملكية في عهد الملك فاروق ؛ إذ كانوا ينددون بالفساد السياسي والاقتصادي والأخلاقي والمجتمعي، ويدعون إلى الحرية والديمقراطية ودسترة البلاد وتحقيق العدالة الاجتماعية. ولكن لما تولى الضباط الأحرار الحكم وتسلم محمد نجيب وجمال عبد الناصر الحكم، كثر الفساد في هذه المرحلة وهيمنت البيروقراطية وأممت ممتلكات الشعب وازداد الفقر وكثر الجوع وانتشر الظلم الاجتماعي، واستفاد الثوار الاشتراكيون من المناصب السامية وأصبحوا متبرجزين على غرار الباشاوات في عهد الملكية المطلقة، وما رؤوف علوان إلا نموذج للانتهازية إبان الخمسينيات وفترة الستينيات. وخان الدعاة والساسة الشعارات الاشتراكية التي كانوا يدافعون عنها، ومكروا بالشعب واستفادوا من الثروات الطائلة، وسببت هذه الخيانة فيما بعد في عدة نكسات وهزائم استنزفت خزينة الدولة، ولاسيما الهزيمة النكراء التي انتصر فيها العدو الصهيوني على العرب وقوضت مكانة جمال عبد الناصر قوميا سنة 1967م.
ويقول غالي شكري محددا مرجعية الرواية وسياقها الخارجي:” تنتقل بنا ( الرواية) من الجو الملحمي إلى قلب التراجيديا مباشرة. ذلك أن التغيير المنشود قد تم في مناخ أقل ما يوصف به أنه شديد الاضطراب، فلا تنظيم سياسي يقود تطلعات الجماهير إلى الاشتراكية، والقرارت الفردية تنزل من عل فلا يتحقق منها ما يتحقق إلا بالقهر ودون مراجعة، والمنتمون الثوريون يعجزون عن المشاركة في تصحيح ما يستوجب التصحيح… وفي ظل هذا الغياب الشامل للتنظيم والديمقراطية جنبا إلى جنب القرارات العلوية التي لا يتسق مضمونها مع أدوات التنفيذ للدولة القديمة المهيمنة، يقع المنتمي في أزمة جديدة عنيفة بين الوجه الذي علمه الثورة وانضم إلى صفوف الطبقة الجديدة الوليدة وخان، وبين الوجه الرابض في أعماقه للكتاب والمسدس.”
ويعني هذا أن سعيد مهران شخصية ثورية تحاول تغيير الواقع ولكن بدون هدف، أي إنها لم تنجح في ذلك أيما نجاح. ولقد ” أضاف الواقع الحي إلى انتصارات العلم والفكر الاشتراكي، أن طبقة جديدة قد ولدت في ظل الفراغ التنظيمي والسياسي والأيديولوجي، وأن هذه الطبقة التي يمثلها في الرواية” الصحفي” رؤوف علوان قد خانت مبادئ الثورة


__________________________________________________ __________

وأمست العدو الأول لسعيد مهران وما يمثله من قيم… وكذلك أضاف الواقع الحي أن الشيخ الجنيدي لم يكن في جعبته من التصوف ما يشفي غليل سعيد مهران إلى الحرية والعدل”.
ولا أتفق مع ماذهب إليه غالي شكري في تعليله لموقف الشيخ علي الجنيدي؛ لأن الحل الحقيقي لأزمة سعيد مهران هو الحل الديني والصوفي، وذلك بتنقية الضمير من ترهات الثوار الاشتراكيين الذين فشلوا في تغيير الواقع وزجوا بسعيد مهران إلى السجن، فالحل- إذاً- هو العودة إلى الله الضامن الحقيقي للسعادة البشرية. وإن رؤوف وأمثاله من الخونة انتهازيون لن يقدموا أي حل يسعد الإنسان سوى الحل الروحاني الذي يشير إليه علي الجنيدي عن طريق تغيير الإنسان لنفسه وتطهيرها من أطماع الدنيا الزائلة والتخلي عن شوائب الأيديولوجيا الزائفة والارتماء بين أحضان الرب. وموقف الجنيدي كان واضحا وهو أن يبدأ سعيد بالتصالح مع الله، وأن يقتنع بالوجود الحقيقي بدلا من الوجود الإيديولوجي والعبثي الذي يبحث عنه. و لن يتحقق التغيير في المجتمع إلا بالاتكال على الله والتحلي بالصدق والعودة إلى هداية الله وتمثل شريعته المستقيمة. وما هزيمة مصر في حرب حزيران 1967م أمام القوى الصهيونية والغربية سوى مؤشر على النفاق وتضعضع السياسة الناصرية والاحتكام إلى الأهواء الشخصية والإيديولوجية.
خاتمــــة:
وعلى أي حال، فرواية ” اللص والكلاب” لنجيب محفوظ من خلال أساليبها وطرائق عرضها رواية فلسفية وجودية عبثية من حيث المضمون تتناول الجريمة والانتقام والثأر بأسلوب السخرية الكاريكاتورية والامتساخ الفانطاستيكي .
كما تجسد الرواية برؤيتها الواقعية الانتقادية ذات الملامح الاجتماعية والسياسية عبث الحياة وقلق الإنسان في هذا الوجود الذي تنحط فيه القيم الأصيلة وتعلو فيه القيم الكمية المنحطة.
وتعتبر هذه الرواية من حيث القالب والبناء والصياغة كلاسيكية الشكل والنمط ؛ بسبب تسلسل الأحداث وتعاقبها كرونولوجيا وتعاقب الأحداث زمنيا ومنطقيا ، وهيمنة السرد غير المباشر، وتشغيل الرؤية من الخلف وضمير الغياب، واستعمال الوصف الواقعي.
والرواية كذلك في مسارها السردي والدلالي والإيقاعي رواية مأساوية تراجيدية قوامها العبث واللاجدوى واللامبالاة، كما أنها ذات بناء دائري إلى حد ما تبدأ بالسجن وتنتهي بالاستسلام والعودة إلى السجن مرة أخرى، أو بالسقوط بين أحضان المقبرة وصمت الموت.
وعلى الرغم من كلاسيكية بناء الرواية، فقد استفاد نجيب محفوظ من تقنيات الرواية الجديدة ومن آليات الرواية المنولوجية وتيار الوعي أثناء استعمال المنولوج وفلاش باك واستشراف المستقبل وخطاب الأحلام وتوظيف الأسلوب غير المباشر الحر، كما استفاد كثيرا من الرواية الواقعية عند بلزاك وستندال وفلوبير، و من الرواية الوجودية كما عند سارتر وألبير كامو وروايات الروائيين الوجوديين العرب خاصة رائدهم الكبير: سهيل إدريس كما يتجلى ذلك واضحا في روايته العابثة” الحي اللاتيني” .


__________________________________________________ __________

رائع جدااا
أختي أنتظر مواضيعك الشيقة بالشوق
استمتعت بين سطورك
ـــــينقل للقسم أأأأأأألمنــــــآأإسب