عنوان الموضوع : تفسير رائع لسورة الملك - الشريعة الاسلامية
مقدم من طرف منتديات نساء الجزائر
تفسير رائع لسورة الملك
بحمد الله تعالى قمنا بتفريغ محاضرة الدكتورة رقية العلواني في تدبر سورة الملك وأضعها بين أيديكم للإطلاع عليها
تدبر سورة الملك
الدكتورة رقية العلواني
بسم الله الرحمن الرحيم. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. حين يغيب الأهل والأصحاب ويودِّعنا الأقارب والأحباب ويُحال بيننا وبين كل الآمال والأمنيات فلا رفيق ولا أنيس ولا جليس ولا قريب ولا بعيد في تلك الغربة وفي ثنايا تلك الوحدة تأتي هذه السورة العظيمة لتشفع لصاحبها كما قال النبي "إن سورة في القرآن ثلاثون آية شفعت لصاحبها حتى غُفِر له (تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)".
اليوم نتدبر في سورة الملك التي وردت أحاديث جيدة الإسناد بأنها المانعة من عذاب القبر. يا ترى ماذا في هذه السورة العظيمة من معاني تجعل قضية المنع من عذاب القبر قضية حاضرة لصاحبها لمن يديم ويداوم على تلاوتها في كل ليلة ماذا في سورة الملك؟ ماذا من مقاصد هذه السورة؟ السورة مكية تتحدث بكل تأكيد كما هي كل السور المكية تتحدث عن الإيمان بالله، تتحدث عن اليوم الآخر، تتحدث عن العذاب، تتحدث عن الجزاء، ولكن ماذا أيضاً في هذه السورة؟ سورة الملك كما سيأتي بعد قليل بعض آياتها تغرس في نفس المؤمن الذي يداوم على تلاوتها وتدبر معانيها الخشية بالغيب، الخشية من الله بالغيب. والخشية بالغيب كما سنأتي عليها هي التي تحول بين الإنسان وبين عدم القيام بكل وبأي" شيء يمكن أن يُدنيه من غضب الله .
هذه الخشية كما في سورة الملك كما في سور القرآن، السورة تؤسسها آية بعد آية بطريقة عملية ولذا كان أول آية في السورة كانت هي (تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ). تستعرض السورة في الآيات الأول منها التعرف إلى الله ، أنا لا يمكن أن أخشى الله -وسنأتي على معنى الخشية بعد قليل- لا يمكن أن أخشاه وأصل إلى مرتبة الخشية من الله بالغيب دون أن أتعرّف إليه، وكيف أتعرف إليه وهو سبحانه ليس كمثله شيء؟ وهو سبحانه لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار؟ ربي سبحانه في سورة الملك عرّفنا بنفسه عليه وعلى صفاته جلّ في علاه من خلال ملكوته، من خلال التعرف على خلقه، من خلال النظر والتفكر والتدبر في آيات ملكه . ولذا جاءت هذه الخشية مبنية على أساس، أساس التعرف على الله فكلما إزددت معرفة به سبحانه كلما إزددت تعرّفاً على صفاته وأسمائه كلما إزددت تعلقاً بملكه واستشعاراً لعظيم قدرته ورحمته كلما إزددت خشية له، ولذا جاء في قول الله (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء (28) فاطر) العلم والمعرفة بالله .
>>>>> ردود الأعضـــــــــــــــــــاء على الموضوع <<<<<
==================================
بدأت السورة المكية بقوله (تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ملك وقدرة، ملك بدون قوة وبدون قدرة لا يُسمى ملكاً. ملك الله ليس فقط مجرد ملك على سبيل التجوز كما يقال لفلان ملك ولفلان رئيس ولفلان مسؤول أو ما شابه، لا. ملكه جل في علاه القدرة على التصرف فيه هبة ومنعاً وعطاء وأخذاً ورداً وإزالة وإقامة ملك كامل وهو قادر على تحقيق هذا الملك ، فكل ما في هذا الملكوت الإنسان الشجر الطير ما سيأتي من قضايا ذكرتها السورة في الثلاثين آية لا تخرج عن إرادته بأي حال من الأحوال حتى القطرة التي نشرب حتى الطير الذي يحلّق بجناحيه في الفضاء لا يستطيع أن يفرد جناحيه ويقبض الجناحين إلا بإرادته سبحانه، هو الذي عل"م هو الذي أعطى، هو الذي وهب، هو الذي منح، حتى أنفاس الحياة هو سبحانه من يمنحها. هذا الملك العظيم الواسع بيده ولا يخرج عن قدرته . ولذا جاءت الآية التي تليها مباشرة لتترك للإنسان مساحة لكي يحاول أن يقارن إن صحت هناك مقارنة -ولله المثل الأعلى- بين من يدعي الملك من البشر كما فعل فرعون على سبيل المثال قال (أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي (51) الزخرف). قد يتوهم الإنسان بحكم قدرته الموهومة، بحكم صلاحياته، بحكم ظلمه لنفسه بأنه يمتلك المك والقوة فجاءته الآية الثانية مباشرة من سورة الملك لتعطيه نوعاً من أنواع النظر في نفسه على وجه الحقيقة لتوقظه بمعنى آخر، لتجعل هذا الإنسان يعود إلى وعيه من جديد بقول الله (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) كل من في الأرض ممن يتوهم أو يتصور في لحظة من لحظات الزهو بالنفس أنه يمتلك قوة أو يمتلك ملكاً هل يستطيع أن يدعي القدرة على الموت وعلى الحياة؟ لا يمكن. حتى النمرود بجهله وحماقته حين إدعى أنه يحيي ويميت ما كانت القضية قضية الإحياء والإماتة كما هي في الواقع المعاش الذي نراه أن تتوقف أنفاس الحياة ونبضات القلب أو أن تدب فيه الحياة وينبض القلب، كان مجرد إدعاء وحماقة منه. لا أحد حتى فرعون إستطاع أن يدعي القدرة على الإحياء والإماتة هذا أمر يدخل في ملكه .
سورة الملك وهي تقدّم لي هذا المعنى وهذه الآية الأولى من دلائل ملك الله وقدرته تريد أن تخرج بي من النظرة المألوفة المعتادة التي لا توقظ الضمير، التي لا تبعث الإيمان في قلب المؤمن، التي لا تجدد الإيمان، التي نجعل حتى قضية الحياة والموت قضية مألوفة معتاد عليها. فكل الناس يرون الحياة أمام أعينهم ويرون المواليد الجدد ويرون كذلك الموت ولكن سورة الملك تريد أن تغير هذه النظرة وتخرج بها من قضية الإلفة والإعتياد التي لا تجدد الإيمان إلى إحيائها في قلبي من جديد لتصبح قضية الموت وقضية الحياة قضية غير مألوفة قضية توصلني إلى الإيمان بالله، قضية تقربني من معرفة الله واستشعار هذه المعرفة والوصول بها إلى الخشية من الله . الموت والحياة ليست قضية مألوفة، كون أنها تتكرر في كل ساعة وفي كل يوم وفي كل لحظة ومع كل مخلوق هذا لا يخرج بها عن حد الإعجاز والقدرة العظيمة لله إلى حد الإلفة والإعتياد حتى تصبح مسألة معتادة لا تحرك فيّ ساكناً ولا تجدد فيّ إيماناً ولا تبعث في حياتي ولا في قلبي الإيمان والخشوع والخشية والخضوع لله من جديد هذا ليس بمقبول، كيف؟ تأملوا معي ختام الآية حين يقول الله (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ) إذاً الموت والحياة ليست مجرد قضية معتادة ومألوفة، الموت والحياة لهما غاية، لهما ككل شيء في هذا العالم الذي خلقه لله هدف نتيجة المسألة مسألة إختبار. حياتي على هذه الأرض وبقائي على الأرض ليست مجرد رحلة ليست مجرد أيام وسنوات أقضيها وأقلب الأوراق في ثناياها ليست مجرد عد للأيام دون حساب ولا كتاب، أبداً.
__________________________________________________ __________
القضية من ورائها هدف ما هو الهدف؟ ليختبركم أيكم أحسن عملاً من منكم من هؤلاء البشر الأعداد المهولة من البشر منذ أن خلق الله آدم إلى قيام الساعة من منكم يستطيع أن يقدم أحسن العمل بين يدي الله ؟. ودعونا هنا نتوقف للحظات أليس الله وهو اللطيف الخبير -كما ستأتي علينا في السورة- أليس بعالم من سيقدم من خلقه أحسن العمل من أسوأ العمل؟ بكل تأكيد، ولكنه من تمام عدله ورحمته وكرمه مع خلقه أنه لم يقم الحجة علينا بعلمه بل أراد أن يقيم الحُجة علينا بأعمالنا وتصرفاتنا وسلوكياتنا. هو يعلم في سابق علمه سبحانه من منا سيقدم أحسن العمل ومن منا لا يقدم ولكنه مع ذلك أراد أن يقيم الحُجّة علينا بأعمالنا وسلوكنا من خلال ما نقدمه في إختبارنا في هذه الأرض، إذاً هو الإختبار هو الإبتلاء هو الإمتحان، نحن نصبح ونمسي ونحن نمتحن نحن في قاعة إمتحان الدنيا بأكملها من أولها لآخرها بليلها ونهارها هي قاعة إمتحان هي فترة إمتحان، متى سأضع القلم؟ بيد الله ، في علم الغيب، متى ستنتهي الفرصة والفترة المخصصة للإمتحان؟ بيد الله وليس بيد أحد سوى الله ولذا قال (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ)
سورة الملك كما سنأتي عليها في تدبر الآيات تقدم لي الخطوات كإنسان كما هو كل القرآن، القرآن ليس لمجرد التلاوة أن أتلو كل ليلة سورة الملك وتنتهي المسألة، لا. القرآن يؤسس القرآن يغير القرآن يحيي القرآن يبني القرآن يبثّ الحياة ويجدد الحياة في إيماني وتوحيدي وفي صلتي بالله .
في سورة الملك الآيات تسير معي خطوة بخطوة للوصول إلى درجة أحسن العمل، كيف أقدِّم أحسن العمل؟ أحسن العمل كما ورد في كثير من الآثار والأقوال للعديد من الصالحين والعلماء هو أخلَص العمل وأصوبه. أخلص أي أن أقوم بالعمل الذي أقوم به وأقدمه بين يدي الله ولا أرى أحداً سوى الله في عملي بمعنى آخر أن أنقي العمل من كل شائبة لا أعمل من أجل مدح الناس وثناء الناس لا أعمل لكي يقال فلان كريم وفلان شجاع وفلان جريء وفلان حافظ للقرآن وفلان كذا وكذا، لا أعمل من أجل أن أنال أجراً من أحد، لا أعمل لأجل أن أنال مسألة مادية في الدنيا، لا أعمل لأجل أحد أعمل لأجل الله وحده، ولكي أصل إلى مرحلة الإخلاص هذه المرحلة العظيمة عليّ أن أكون أكثر خشية وأكثر معرفة بالله سبحانه وهو ما تقدمه لي آيات سورة الملك. إذاً أحسن العمل أخلصه وأصوبه أي ما كان وفق ما جاء به الله من أوامر في القرآن وما جاء على لسان حبيبه المصطفى في سنته.
__________________________________________________ __________
سورة الملك بآياتها العظيمة تبدأ معي خطوة بخطوة بعد أن جاءت الآية الثانية في الحديث عن الإعجاز والمعجزة العظيمة في قضية الخلق وفي قضية الموت والحياة بدأت تأخذني إلى عالم آخر، العالم الذي أراه أمامي عالم الشهادة وليس عالم الغيب. عالم الشهادة الذي يبصِّرني بخلق السماوات والأرض، تدبروا معي قول الله (الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِأً وَهُوَ حَسِيرٌ (4) وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِّلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ (5)) الآيات تأخذني إلى عبادة أخرى أيّ عبادة؟ عبادة النظر في خلق السماوات، هذا الخلق العظيم، هذا الخلق الذي يريدني الله أن لا أمرّ عليه كما أفعل في كثير من الأحيان مرور الكرام، بمعنى آخر أن لا أكتفي فقط بنظرة عابرة مألوفة للسماء ثم أنبهر بجماله وأقول يا سبحان الله! وتنتهي القصة عن هذا الحد، لا، سورة الملك تريد مني أن أكرر النظر مرة بعد مرة ليست مجرد نظرة عابرة ولماذا تريد مني هذه النظرة؟ لما تريد مني سورة الملك أن أنظر وأتدبر وأتأمل في السماوات والأرض؟ لأصل إلى حقيقة واحدة أن هذا الخلق العظيم ليس فيه تفاوت ليس فيه خلل ليس فيه قصور ليس فيه أي نقص هذا الخلق على سعته التي لا أستطيع أنا كإنسان أن أنظر كل السماوات بأطرافها هذا الخلق العظيم لا يمكن أن يقوم به إلا الله . خلقٌ يقودني إلى معرفة الله، خلق يقودني إلى القول بسبحان الله ولكن تسبيح يليق بجلاله يليق بعظمته ينكسر فيه القلب إيماناً وخضوعاً وإذعاناً وتسليماً للخالق . بمعنى آخر أن أتحوّل من النظرة العابرة التي إعتدنا عليها في مثل هذه الأيام وربما قد لا ننظر مع وجود الحضارة المعاصرة ووجود الأسقف إلى آخره بدأنا للأسف الشديد نبتعد عن هذه العبادة العظيمة التي هي ليست لا تخص فقط الجانب الإيماني أو الروحي فينا بل تمس حتى الجوانب النفسية كبشر، أنا بحاجة أن أتوصل مع الطبيعة، أنا بحاجة إلى أن أنظر لهذا الخلق وكل الدراسات العلمية الحديثة تؤكد أهمية النظر في الطبيعة، أهمية أن تكون هناك صلة بيني كإنسان وبين هذا الخلق.
__________________________________________________ __________
سورة الملك جاءت بتحدي عظيم لتبثّ في نفسي من جديد عبادة غفل عنها الكثيرون عبادة التفكر من أعظم العبادات أن أتفكر في ملكوت السماوات والأرض. ودعونا هنا كذلك نتوقف لحظة عند قول السيدة عائشة عن أعجب شيء رأته في حياتها مع النبي حين سُئلت عن ذلك فقالت: لما كان ليلة من الليالي قال لي رسول الله يا عائشة ذريني أتعبد الليلة لربي فقلت والله إني لأحب قربك وأُحب ما يسرك، قالت فقام النبي فتطهّر ثم قام يصلي فلم يزل يبكي حتى بلّ حجره وكان جالساً ولم يزل يبكي حتى بلّ لحيته ثم بكى فلم يزل يبكي حتى بل الأرض فجاءه بلال يؤذنه بالصلاة فلما رآه يبكي أشفق عليه بلال وقال يا رسول الله لِمَ تبكي وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال له النبي أفلا أكون عبداً شكوراً؟ لقد نزلت علي الليلة آية ويل لمن قرأها ولم يتفكّر فيها (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191) آل عمران). عبادة التفكُّر المنسية في عالمنا المعاصِر، المنسية بما إصطنعناه من مشاغل موهومة، المشاغل موجودة دائماً، المشاغل كانت موجودة في حياة النبي في تلك الليلة التي حمل فيها همّ أمة أمة كانت موجودة معه قد حمل الرسالة لها وأمة لم تأت، نحن. هذا النبي العظيم بمشاغله العظيمة الجمّة وجد وقتاً وزمناً كافياً ليقوم بهذه العبادة العظيمة عبادة التفكر في خلق السماوات والأرض وينبه أمته عليها وعلى أهميتها وأنها من الأهمية بمكان بحيث أني لا بد مهما كانت مشاغلي أن أخصص لها وقتاً من الزمن أقتطع وقتاً من زمني من عمري من حياتي لأنظر في هذا الخلق ليس مجرد نظرة عابرة كما ذكرنا، نظرة تقودني إلى عبادة التفكر تحيي وتجدد في قلبي الإيمان بالله تعرفني بموقعي على هذه الأرض أنا مجرد إنسان عابر سبيل، أنا سائر، أنا مسافر، أنا إنسان أقوم برحلة لن أبقى على هذه الأرض، ماذا قدّمت؟ أين أنا من إحسان العمل؟ ماذا قدمت لله؟ هل أنا من الفائزين فأهنئ نفسي وأبارك؟ أم أنا من الخاسرين فأعزي نفسي وأسلّيها وأستدرك الأمر قبل فوات الأوان؟ أين أنا من خشيتي لله؟ أين معرفتي بهذا الخلق؟ نظرت في السماوات والأرض أين قادتني تلك المعرفة؟ ولذا جاءت الآية كما ذكرنا (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء (28) فاطر) أنا أحتاج إلى معرفة وعلم ونظر يقربني إلى الله وليس أنه يباعدني عنه. العلم المعاصر الذي نعيش اليوم وقته وزمانه أين وصل بنا؟ هل قرّبنا إلى الله؟ هل أوصلني فعلاً إلى درجة الإيمان بالله ؟ أم أين وصلت؟ أحتاج أن أتفكّر ولذا جاء في حديث النبي "ويلٌ لمن قرأها ولم يتفكّر فيها" ويل، خسارة كبيرة، ليست مجرد الويل والوعيد. خسارة لي أنا كإنسان أن أمرّ مرور الكرام مرور عابر على كل الآيات التي يمكن لها إذا تفكرت فيها حق التفكر والتدبر أن تصل بي إلى التعرف على الله فإذا وصلت ربحت كل شيء، ربحت خيري الدنيا والآخرة.
__________________________________________________ __________
ولذا جاءت الآيات التي تليها بعد أن قالت (وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ (5) وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (6)) بدأ الحديث مباشرة عن جزاء الكافرين لماذا؟ لأن الكفر هو حجاب، هو حائل إصطنعه الإنسان بكفره فحال بينه وبين التعرف على خالقه بيديه، حال بينه وبين الوصول إلى خالق هذا الكون العظيم، كل شيء في السماء ينطق بأن الله واحد، كل شيء في الأرض، كل آيات سورة الملك التي سنأتي عليها تنطق بشيء واحد أن لا إله إلا الله، كل هذه الآيات أمام عيني ولم تصل بي لمرحلة الإيمان وأنا وصلت إلى مرحلة الكفر! أكيد هناك خلل وخلل عظيم. ولذلك جاءت الآيات (إِذَا أُلْقُوا فِيهَا) أي في النار (سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ (7) تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8)) حتى النار، حتى نار جهنم تتميز من الغيظ على هذا الإنسان الكافر الذي رأى كل ما رأى أمام عينيه ولكنه لم يصغي إلى نداء قلبه وعقله وفطرته السليمة لتلبية نداء الحق . ولذا يأتي نوع من أنواع التوبيخ (أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ) القضية ليست قضية سؤال، القضية توبيخ، القضية زيادة في العذاب لهذا الإنسان الكافر المكذِّب. (قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ) وتدبروا معي الآية التي تليها يقول فيها (وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10)) إذن هي وسائل الإدراك التي وهبها الله لخلقه فعطّلها الكافر بكفره وغيّه (وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ) يا تُرى هل كان هؤلاء الكفار صُمّ؟ عُمي؟ هل كانوا مجانين لا يمتلكون العقل؟ لو كان بالفعل مجاني لما كانوا عُذّبوا أصلاً، كانوا يمتلكون العقل والقلب والسمع والبصر وكل شيء، كل وسائل الإدراك ولكنهم بكفرهم حجبوا تلك الوسائل عن أن تقودهم لمعرفة الله وخشيته فحال بينهم وبينه الكفر. وسائل الإدراك كما يأتي في آيات متعددة في القرآن الكريم (لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا) وقد يكون الإنسان له آذان ولكن لا يسمعون بها ولهم أعين لا يبصرون بها (َلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا) ولذا شبهتهم الآية (أُوْلَـئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ (179) الأعراف) لماذا؟ الأنعام والحيوانات ترى الأشياء وتبصر الأمور والآيات الدالة على خلق الله ولكن ليس مطالباً منها أن تحوّل هذه المعرفة إلى معرفة تقدم فيها أحسن العمل وأصوب العمل أما الإنسان وحده الإنسان مُطالَب ومُكلَّف أن تقوده هذه المعرفة وهذه الوسائل من الأعين والآذان أن تقوده لمعرفة الله وخشيته، وليست معرفة جامدة معرفة متحركة بمعنى آخر معرفة تدفع بي نحو القيام بأحسن العمل تقديم أحسن العمل بين يدي الله ، تعرّفت عليه، أدركت بأنه قادر على كل شيء أدركت بأنه عزيز غفور أدركت أن هذا الملك العظيم خلق السموات والأرض لا يمكن لأي أحد مهما بلغ من القوة أن يدّعيه لا يمكن. بعد أن توصلت إلى هذه المرحلة علي أن أتحرّك في إيماني لمرحلة أخرى، ما هي المرحلة؟ خشية الله، هذه الخشية ليست خشية ساكنة وإنما خشية متحركة فاعلة في واقع الحياة تدفع بي نحو أحسن العمل وأخلص العمل، أني حين أقدم العمل لا أقدّمه إلا لله وحده، لا أقدِّمه إلا ابتغاء وجه الله المستحق وحده سبحانه للعبودية، المستحق لأن تقدَّم بين يديه الأعمال وتخلّص من كل شائبة.
وتدبروا معي وانظروا في هذه القاعدة العظيمة من قواعد التدبر: الصلة بين الآيات، الصلة والترابط العظيم كل آية تقودني إلى الآية التي تليها لأنها تؤسس تبني فيّ شيئاً، بعد أن قدمت لي مآل الكافرين الذين عطلوا وسائل الإدراك التي وهبهم الله إياها جاءت بي إلى الإنسان الآخر، المؤمن الإنسان الذي تقوده النظرة المتدبرة، الذي تقوده عبادة التفكر في ملكوت السموات والأرض، الذي تقوده العبادات المختلفة في كل شيء، الذي لا يوجد في حياته شيء اسمه مألوف أو عادي، تقول له فلان مات يقول لك عادي! تقول له فلان عاش يقول عادي، تقول له فلان جاءه ولد يقول عادي! لا، ليس بعادي!، الحياة والموت ليست بأمر عادي بل معجزة علي أني كلما تتجدد أمام عيني يتجدد معي بها إيماني بخالقي سبحانه وتزداد عندي نسبة الخشية من الله ولذا جاءت الآية (إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (12)) التفكر الذي يثمر العلم واليقين بعظمة الله حُبّاً وتعلقاً بالله وحده لا شريك له، توحيد. كيف جاءت هذه الخشية؟ ما جاءت من خلال الكلام جاءت من خلال العبادة، سورة الملك تقدّم لي الخطوات التي تصل بي إلى مرحلة الخشية من أعظم وسائل الوصول لخشية الله سبانه وتعالى بالغيب أن أتفكر في ملكوت السموات والأرض أن لا أدع أي منظر أو أي قضية تمر أمام عيني ولا أتفكر فيها ولا تزيد في درجة إيماني وتوحيدي وقربي من الله . والخشية ليست مجرد خوف لا، هي خوف مع مهابة مع تعظيم مع حبّ وتعلق بالله لا يدرك معانيها إلا من ذاقها. ولذا يقول الحسن" تفكُّر ساعة خير من قيام ليلة. تخيلوا معي كم قيام الله عبادة عظيمة جداً والأجر فيها عظيم ولكن أن أتفكر ساعة في الأمور التي تمر بي في حياتي في خلق السموات والأرض في الموت والحياة، في كل شيء، أيّ تفكر، حتى في النمل حتى في الطير حتى في الماء الذي أشرب، لما أتفكر، هذا التفكر خير من قيام ليلة ولكن متى يكون خير من قيام ليلة؟ إذا أثمر في نفسي وأتت الثمرة ناضجة سويّة، أية ثمرة؟ ثمرة خشية الله . كل تفكر لا بد أن يقودني إلى الخشية من الله وأكثر الناس خشية لله أحسنهم أعمالاً.