عنوان الموضوع : الخيط الناظم في كتاب الله
مقدم من طرف منتديات نساء الجزائر

الخيط الناظم في كتاب الله



إبراهيم السكران : الخيط الناظم في كتاب الله




الحمدلله وبعد،،

هذه ليست ورقة بحثية، ولا مقالة منظمة، ولا حتى خاطرة أدبية، كلا، ليست شيئاً من ذلك كله، وإنما هي (هم نفسي شخصي) قررت أن أبوح به لأحبائي وإخواني، فهذه التي بين يديك هي أشبه بورقة "اعتراف" تطوى في سجلات الحزانى.. اقرأها ثم امحها من جهازك إن شئت..

هذا الإحباط النفسي الذي يجرفني ليس وليد هذه الأيام، وإنما استولى علي منذ سنوات، لكن نفوذه مازال يتعاظم في داخلي..

صحيح أنني أحياناً كثيرة أنسى في اكتظاظ مهام الحياة اليومية هذه القضية، لكن كلما خيّم الليل، وحانت ساعة الإخلاد إلى الفراش، ووضعت رأسي على الوسادة، وأخذت أسترجع شريط اليوم ينبعث لهيب الألم من جديد.. ويضطرم جمر الإحباط حياً جذعاً..

ثمة قضية كبرى وأولوية قصوى يجب أن أقوم بها ومع ذلك لازالت ساعات يومي تتصرم دون تنفيذ هذه المهمة.. لماذا تذهب السنون تلو السنون ولازلت أفشل في التنفيذ؟ لماذا تكون المهمة أمام عيني في غاية الوضوح ومع ذلك أفلس في القيام بها؟

ويزداد الألم حين أتأمل في كثير من الناس من حولي فلا أرى فيهم إلا بعداً عن هذا القضية، إلا من رحم الله.. مجالس اجتماعية احضرها تذهب كلها بعيداً عن "الأولوية القصوى".. وأتصفح منتديات انترنتية وصفحات تواصل اجتماعي (فيسبوك وتويتر) تمتلئ بآلاف التعليقات يومياً.. وأكثرها منهمك في أمور بعيدة عن "الأولوية القصوى" إلا من رحم الله.. وأطالع كتباً فكرية تقذف بها دور النشر وتفرشها أمامك معارض الكتب وغالبها معصوب العينين عن "الأولوية القصوى"..

فإذا أعدت كل مساء استحضار واقعي اليومي، وواقع كثير من الناس من حولي؛ تنفست الحسرات وأخذت أتجرع مرارتها .. وأتساءل: لِم؟ لِم هذا كله؟ متى تنتهي هذه المأساة؟

دعني ألخص لك كل الحكاية.. في كل مرةٍ أتأمل فيها القرآن أشعر أنني لازلت بعيداً عن جوهر مراد الله .. مركز القرآن الذي تدور حوله قضاياه لازلت أشعر بالمسافة الكبيرة بيني وبينها..

يذكر الله في القرآن أموراً كثيرة .. يذكر تعالى ذاته المقدسة بأوصاف الجلال الإلهية، ويذكر الله في القرآن مشاهد القيامة من جنة ونار ومحشر ونحوها، ويذكر أخبار الأنبياء وأخبار الطغاة وأخبار الصالحين وأخبار الأمم سيما بنو اسرائيل وتصرفاتهم، ويذكر تشريعات عملية في العبادات والمعاملات، الخ وفي كل هذه القضايا ثمة خيط ناظم يربط كل هذه القضايا .. تتعدد الموضوعات في القرآن لكن هذا الخيط الناظم هو هو .. هذه القضية التي يدور حولها القرآن ويربط كل شيء بها هي "عمارة النفوس بالله" ..

كنت أتأمل –مثلاً- في أوائل المصحف، في سورة البقرة، كيف حكى الله تعجب الملائكة (أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا؟)[البقرة، 30] ثم يربي الله فيهم تعظيم الله ورد العلم إليه (قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ)[البقرة، 30]..

وكنت أتأمل بعد ذلك في سورة البقرة نفسها كيف يعدد الله نعمه على بني اسرائيل في ست آيات، فيها أنه فضلهم على العالمين، وأنه نجاهم من آل فرعون، وأنه فرق بهم البحر فأغرق آل فرعون، وأنه عفى عنهم بعد اتخاذهم العجل، ثم بعد هذا التعديد العجيب لقائمة النعم، يختم بوظيفة ذلك كله (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) .. كل هذا السياق يراد به عمارة النفوس بالله بأن تلهج الألسنة والقلوب بتذكره وشكره تعالى..

بل يذكر الله تعالى في البقرة، وأعاده في مواضع أخرى أيضاً، كيف اقتلع تعالى جبلاً من الجبال ورفعه حتى صار فوق رؤوس بني اسرائيل، لماذا؟ ليربي فيهم شدة التدين والتعلق بالله، يقول تعالى في البقرة (وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ)[البقرة، 63]. وقال في الأعراف (وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ)[الأعراف، 171].. كل هذا لتعمر النفوس بالتشبث بكلام الله تعالى " خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ" ..

وكنت أتأمل كيف يصف القرآن حالة القلوب التي غارت ينابيع الإيمان فيها وأمحلت من التعلق بالله، حتى قارنها الله بأكثر الجمادات يبوسة في موازنة لا تخفي الأسى والرثاء.. يقول تعالى (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً)[البقرة، 74] ثم يكمل في تلك المقارنة المحرجة (وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ..) حتى الحجارة تلين وتخضع وتتفجر وتتشقق وتهبط.. ومالمراد من هذا المثل؟ هو عمارة النفوس بالله (وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ)..

وكنت أتأمل كيف ابتلى الله العباد بأمور توافق هواهم، وبأمور أخرى تعارضها، فآمن بعض الناس بما يوافق هواه وترك غيره، فلم يقل القرآن يشكر لهم ما آمنوا به ويتغاضى عن ما تركوا.. لا .. الله يريد أن تعمر النفوس بالله فتنقاد وتخضع وتنصاع لله في كل شيء.. يقول تعالى (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ)[البقرة، 85] ثم يقول بعدها بآيات معدودة (أفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ)[البقرة، 87].. لماذا شنع عليهم ربنا جل وعلا؟ لأن المراد شيء آخر .. شيء آخر يختلف كثيراً عما يتصور كثير ممن تضررت عقولهم بالثقافة الغربية المادية.. المراد عمارة النفوس بتعظيم الله والاستسلام المطلق له..

وكنت أتأمل كيف يذكر الله النسخ في القرآن، وهو مسألة مشتركة بين أصول الفقه وعلوم القرآن، ثم يختم ذلك ببيان دلالة هذه الظاهرة التشريعية، وهي عمارة النفوس بتعظيم القدرة الإلهية (مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)[البقرة، 106].. يا سبحان الله .. مسألة أصولية بحتة وتربط فيها القلوب بتعظيم الله، وقدرة الله..

وكنت أتأمل كيف ذكر الله مسألة من مسائل شروط الصلاة وهي (استقبال القبلة)، ثم تغييرها بين بيت المقدس والكعبة، وبرغم كونها مسألة فقهية بحتة، إلا أن القرآن ينبهنا أن وظيفة هذه الحادثة التاريخية كلها هي "اختبار" النفوس في مدى تعظيمها واستسلامها لله؟ هذا جوهر القضية! (وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ)[البقرة، 143] ..

وآيات القصاص تختم بـ"تقوى الله" كما يقول تعالى (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)[البقرة، 179] وآيات الصيام تلحق أيضاً بالتقوى في قوله تعالى (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)[البقرة، 183] وآيات الوصية تختم كذلك بالتقوى في قوله تعالى (إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ)[البقرة، 180] ..

ولما ذكر الله مناسك الحج وأعمالها وشعائرها.. ووصل للحظة اختتام هذه المناسك وانقضائها، أعاد الأمر مجدداً لربط النفوس بالله وإحياء حضور الله في القلوب (فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ)[البقرة، 200] .. واعجباه .. تنقضي المناسك وما يعتري المرء فيها من النصب، لتربط النفوس مجدداً بالله.. برغم أن الحج أصلاً مبناه على ذكر الله بالتلبية والتكبير ونحوها، فالقلب في القرآن من الله .. وإلى الله .. سبحانه وتعالى..


>>>>> ردود الأعضـــــــــــــــــــاء على الموضوع <<<<<
==================================


وأخذت أتأمل لما ذكر الله تعالى حكم (الإيلاء) في القرآن، وذكر الله للرجال خيارين: إما أن يتربصوا أربعة اشهر، أو أن يعزموا الطلاق، وأدركني العجب كيف يختم كل خيار فقهي بأوصاف العظمة الإلهية، يقول تعالى في آيتين متتابعتين (لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ** وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)[البقرة، 226-227].. والله شيء عجيب أن تربط النفوس بالله بمثل هذه الكثافة في تفاصيل الأحكام الفقهية..

وكنت أتأمل كيف ذكر الله حالة "الخوف" من الأعداء ونحوها، فلم يسقط الصلاة، بل أمر الله بها حتى في تلك الأحوال الصعبة، (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ ** فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا)[البقرة، 238-239] حسناً هذا في حال الخوف فماذا سيكون في حال الأمن؟ تكمل الآية (فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ)[البقرة، 239] ..

رجعت مرةً أخرى إلى بداية الآية وأخذت أتأمل المحصلة، وإذا بها في حال الأمن والخوف يجب أن يكون القلب معلقاً بالله.. بالله عليك أعد قراءة الآية متصلة (فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ)[البقرة، 239].. القرآن يريد النفس البشرية مشدودة الارتباط بالله جل وعلا في جميع الأحوال.. يريد من المسلم أن يكون الله حاضراً في كل سكنة وحركة..

وكنت أتأمل كيف يذكر الله النصر العسكري ليربط النفوس بالله (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)[آل عمران، 123]..

وحتى حين ذكر الله المعاصي والخطايا إذ يقارفها ابن آدم فإن القرآن يفتح باب ذكر الله أيضاً (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ..)[آل عمران، 135]

وذكر الله تبدلات موازين القوى عبر التاريخ، وربط الأمر –أيضاً- بأن المراد اختبار عمق الإيمان والارتباط بالله (تِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ)[آل عمران، 140]..

وقص الله في القرآن قصة قومٍ قاتلوا مع نبيهم .. وحكى القرآن ثباتهم.. ومن ألطف ما في ذلك السياق أنه أخبرنا بمقالتهم التي قالوها في ثنايا معركتهم.. فإذا بها كلها مناجاة وتعلق بالله (وكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ ** وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ)[آل عمران، 146-147].. شئ مدهش والله من حال ذلك القوم الذين عرضهم الله في سياق الثناء. في قلب المعركة .. وتراهم يستغفرون الله من خطاياهم، ويبتهلون إليه، ويظهرون الافتقار والتقصير وأنهم مسرفون .. يالتلك القلوب الموصولة بالله..

ولما ذكر الله الجهاد شرح وظيفته وأنها اختبار ما في النفوس من تعلق بالله وإيمان به (قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ)[آل عمران، 154].. وقال (وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ)[آل عمران، 166]

ولما ذكر الله حب النفس البشرية للنصر على الأعداء لفت الانتباه إلى المصدر الرئيسي للنصر .. تأمل بالله عليك كيف يضخ القرآن في النفوس التعلق المستمر بالله (إنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ)[آل عمران، 160] ويقول تعالى (إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ)[محمد، 7]..

وكنت أنظر كيف يصوّر القرآن أوضاع الجلوس والقيام والاسترخاء.. وكيف تكون النفس في كل هذه الأحوال لاهجة بذكر الله (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ)[آل عمران، 191].. يذكر الله وهو واقف .. يذكر الله وهو جالس .. يذكر الله وهو مضطجع.. أي تعلق بالله .. وأي نفوس معمورة بربها أكثر من هذه الصورة المشرقة.. سألتك بالله وأنت تقرأ هذه الآية ألا تتذكر بعض العبّاد المخبتين من كبار السن الذين لا تكف ألسنتهم عن تسبيح وتحميد وتكبير .. هل ترى الله حكى لنا هذه الصورة عبثاً؟ أم أن الله تعالى يريد منا أن نكون هكذا .. نفوساً مملوءة بربها ومولاها لا تغفل عن استحضار عظمته وتألهه لحظة واحدة..

وحتى في المشاعر بين الزوجين إذا سارت الأمور في غير مجاريها فإن القرآن يحرك في النفوس استحضار الغيبيات والأبعاد الإيمانية حيث يقول تعالى (فإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا)[النساء، 19]..

فإن بلغت أمور الزوجين إلى الشقاق الزوجي شرع التحكيم بينهما .. وحتى في هذا التحكيم الزوجي فإن القرآن يلفت انتباه المنخرطين في هذه العملية إلى أن مسارات التحكيم مرتبطة بما قام في القلوب من العلاقة بالله (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا)[النساء، 35]..

ولما ذكر الله البلد الذي لا يستطيع المؤمن فيها إظهار شعائره وأمر بالهجرة إلى بلد آخر؛ لم يجعل الأمر مجرد هجرة من مكان جغرافي إلى آخر، بل جعل القضية "هجرة إلى الله" ذاته، كما يقول تعالى (وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ)[النساء، 100] .. فالأمر في صيغته الحسية مجرد هجرة من بلد إلى بلد، لكنه في ميزان القرآن "هجرة إلى الله ورسوله" ..

ومن أعجب مواضع القرآن في ربط النفوس بالله وعمارتها بربها، ولا أظن أن ثمة دلالة أكثر من ذلك على هذا الأمر: (صلاة الخوف حال الحرب)، هذه الشعيرة تسكب عندها عبرات المتدبرين..


__________________________________________________ __________

وقد تكفل القرآن ذاته بشرح صفتها، وجاءت في السنة على سبعة أوجه معروفة تفاصيلها في كتب الفقه .. بالله عليك تخيل المسلم وقد لبس لأمة الحرب، وصار على خط المواجهة، والعدو يتربص، والنفوس مضطربة قلقة، والأزيز يمخر الأجواء، والدم تحت الأرجل.. ومع ذلك لم يقل الله دعوا الصلاة حتى تنتهوا، بل لم يقل دعوا "صلاة الجماعة" ! وإنما شرح لهم كيف يصلوا جماعة في هذه اللحظات العصيبة (وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ)[النساء، 102]..

هل تعرف في الدنيا كلها شاهد على حب وتعظيم الله جل وعلا للارتباط بالله واستمرار مناجاته أكثر من ذلك.. بل هل يوجد رجل فيه شئ من الورع وخوف الله يهمل صلاة الجماعة وهو في حال الأمن والرفاهية وعصر وسائل الراحة؛ وهو يرى ربه تعالى يطلب من المقاتلين صلاة الجماعة ويشرح لهم تفاصيل صفتها بدقة، وهم تحت احتمالات القصف والإغارة؟!

هل تستيقظ نفوس افترشت سجاداتها في غرفها ومكاتبها تصلي "آحاداً" لتتأمل كيف يطلب الله صلاة "الجماعة" بين السيوف والسهام والدروع والخنادق..؟!

أترى الله يأمر المقاتل الخائف المخاطر بصلاة الجماعة، ويشرح له صفتها في كتابه، ويعذر المضطجعين تحت الفضائيات، والمتربعين فوق مكاتب الشركات؟! هل تأتي شريعة الله الموافقة للعقول بمثل ذلك؟!

ومن اللطيف أن الآية التي أعقبت الآية السابقة تكلمت عن حال إتمام الصلاة، حسناً .. نحن عرفنا الآن من الآية السابقة صفة الصلاة لحظة احتدام الصفين، فما هو التوجيه الذي سيقدمه القرآن بعد الانقضاء من الصلاة؟ يقول تعالى (فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ)[النساء، 103] ياسبحان ربي .. الآن انتهى المقاتل من صلاة الجماعة، فيرشده القرآن لاستمرار ذكر الله .. هل انتهى الأمر هاهنا؟ لا، لم ينته الأمر بعد، فقد واصلت الآية الحديث عن انتهاء حالة الخوف، وبدء حالة الاطمئنان، ويتصل الكلام مرةً أخرى لربط النفوس بالله (فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ)[النساء، 103]..

صارت القضية كلها لله .. بالله عليك أعد قراءة الآيتين متواصلتين (وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (102) فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا)[النساء، 102-103]..

ولما ذكر الله الصلاة في سورة "طه" أشار إلى غاية تغيب عن بال كثير من المصلين فضلاً عمن دونهم، ربما يتحدث الواحد منا عن عظمة الصلاة في الإسلام، وأنها أعظم ركن بعد الشهادتين، وأنها الخط الفاصل بين الكفر والإيمان، ونحو هذا من معاني مركزية الصلاة، ولكن لماذا شرع الله الصلاة وأحبها وعظمها سبحانه؟ إنها بوابة استحضار الله وتذكره، يقول الله سبحانه (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي)[طه، 14] هكذا بكل وضوح.. يقيم المسلمون الصلاة ليتذكرون الله جل وعلا.. يكبرونه ويسبحونه ويناجونه..

بل وحتى حين ذكر الله الجوارح المعلمة في الصيد لم يذكر تعليمها مغفلاً هكذا .. بل يربطه بالحقيقة العقدية الإيمانية ليستمر القلب موصولاً بعظمة الله .. تأمل كيف ينبه المسلم على ذلك (وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ)[المائدة، 4] .. حتى تعليم الجوارح والكلاب الصيد يجب أن يستحضر المؤمن أنها تعليم مما علم الله .. ما أشد كثافة حضور العلاقة بالله في القرآن..

وأخذ القرآن مرةً يستثير ذكرياتٍ للصحابة كاد الكفار فيها أن يفتكوا بهم، فينبش القرآن هذه الوقائع التاريخية ليرتفع بالقلوب إلى الله الذي نجاهم، يقول تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ)[المائدة، 11].

وقد ذكر أهل التفسير فيها عدة وقائع تندرج في ذلك، كمحاولة الأعرابي غورث بن الحارث أن يقتل رسول الله، كما في البخاري.. ومثل مؤامرة اليهود لقتل رسول الله –صلى الله عليه وسلم- وأصحابه فأوحى الله إليه وانكشفت المؤامرة، ونحوها من الأحداث..

ليس المهم تعيين هذه الأحداث التي فشلت فيها مؤامرات الكفار ضد الرسول والصحابة .. الأهم والله حين يرى متدبر القرآن كيف يفاجئ القرآن الصحابة بذكر تلك القصص ليحيي علاقة القلب بالله.. فينبههم أن الله سبحانه هو الذي كف أيدي الكفار عنكم، وأنه يجب أن تتوكل القلوب عليه سبحانه ..

آيات تنبش في أذهان الصحابة ذكريات أحداثٍ وخطوب سلموا فيها، لا تذكرها هذه الآيات إلا لتصعد بالقلوب إلى الخالق المتفضل سبحانه.. كأن هذه الآيات تقول: انتبهوا إن سلامتكم في تلك الأحداث ليست أمراً عابراً، بل هو فضل من الله ورحمة، فاذكروا هذا ولا تنسوه، وليكم منكم على بال، ولتعشه القلوب وتلهج بشكر الله الألسنة والجوارح.. انظر كيف تكون وظيفة (السير والمغازي) في كتاب الله، وقارنها بنمط تعاملنا معها ..

وتذكير القرآن للصحابة بغزواتهم في سورة الانفال يشبه قول الله في سورة ابراهيم عن موسى (ولَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ)[إبراهيم، 5] فقال موسى مستجيباً في الآية التي تليها: (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ)[إبراهيم، 6]

ولما ذكر الله تعالى قصة موسى –صلى الله عليه وسلم- إذ أمر قومه بدخول (الأرض المقدسة) والتي ذكر بعض أهل التفسير أنها الطور وما حولها، فتخاذل قوم موسى واعتذروا بأن فيها قوماً جبارين لديهم إمكانيات لا نستطيع مقاومتها، وفي هذه اللحظة وقف رجلان من قوم موسى موقف الشجاع مستجيبين لأمر موسى، ونبهوا قومهم أنهم بمجرد الدخول على الجبارين فسينهزمون بإذن الله.. هذان الرجلان البطلان لم يذكرهما الله في كتابه وينسب الفضل لهما، بل نبّه تعالى أن موقفهم البطولي إنما له خلفيات أخرى. بالله عليك تتبع نمط القرآن في عرض ذلك، يقول الله حاكياً خطاب موسى:

(يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ * قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ * قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)[المائدة، 20-23]


__________________________________________________ __________

جعله الله في ميزان حسناتك


__________________________________________________ __________

لعلك لاحظت الأمر، وكيف يلح القرآن على إبراز خلفيات العلاقة بالله، فهذا الرجلان لم يقفا هذا الموقف الصواب إلا لأنهما يخافا من الله، وقد أنعم الله عليهما بمقامات الإيمان والديانة.. وحتى وصيتهما لقومهما كانت (وعلى الله فتوكلوا) والتوكل من أدق مقامات تعلق القلب بالله، بل إن التوكل هو لحظة التعلق بالله فعلاً..

هذه الوقائع والحوارات بين موسى وقومه لا يمكن أن تخرج منها بمبدأ جوهري إلا مركزية التعلق بالله.. فموسى يذكرهم بالله لكي يدخلوا الأرض المقدسة، وبطلا المشهد إنما وقفا هذا الموقف لأن الله أنعم عليهما بمقامات الإيمان، ونصيحتهما الختامية هي (التوكل على الله) .. القصة كلها إيمان في إيمان..

ثم يحدثك القرآن عن ظاهرة المصائب والأضرار التي تصيب الإنسان في حياته الشخصية، وبالرغم من أن الله شرع لنا اتخاذ الأسباب، كالأدوية للشفاء من المرض، والتماس الرزق لرفع الفقر، إلا أن القرآن يكثف دائرة الضوء على أمرٍ آخر أهم وهو أن يرتبط الفؤاد بالله سبحانه وتعالى وهو يصارع هذه البلاءات، تأمل كيف يصوغ القرآن هذا المعنى، يقول الله:

(وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)[الأنعام، 17]

ويقول ربنا في موضعٍ آخر مشابه (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)[يونس، 107]

لعلك لمحت معنى آخر، وهو أن الآيتين كليهما لم يتحدثا فقط عن أن كاشف الضر هو الله، بل المدهش أنهما أشارتا كذلك إلى أن من مسّك بهذا الضر هو الله سبحانه أيضاً!

فحين يتعمق المؤمن في أسرار هذه الآيات فيمتلئ قلبه باليقين بأن من مسّه بالفقر أو المرض هو الله، وأن من سيرفع هذا الضر، فيغنيه ويعافيه؛ هو الله أيضاً، فصار مبتدأ الأمر ومنتهاه من الله وإلى الله، فماذا بقي في القلب لغير الله!

الله وحده –جل جلاله- هو الذي أوقعه، والله وحده –جل جلاله- هو الذي سيرفعه! هكذا يتبحر المؤمن في حقائق العلم بالله والإيمان به وعمارة النفوس بمهابته سبحانه..

ثم ينتقل القرآن إلى دائرة أوسع من دائرة (الفرد) وهمومه الشخصية، إلى دائرة (المجتمع) وقضايا الشأن العام وما تكابده من أزمات، ماذا يريد الله جلّ وعلا بتقدير هذه الأزمات المجتمعية؟ قطعاً هناك حكمة إلهية في تقدير هذه المصائب المجتمعية، فما هي يا ترى؟ إنها ليست شيئاً آخر غير تلك الحقيقة الكبرى الناظمة للقرآن والتي رأيناها تسري في شرايين الشواهد والنماذج السابقة، بكل وضوح ومباشرة يكشف الله سبحانه عن حكمته في تقدير هذه الأزمات المجتمعية فيقول:

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ)[الأنعام،42-43]

ويحدد ربنا في موضع آخر مشابه ذات الخلفية (مَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ)[الأعراف، 94]

وتضيف آيةٌ أخرى مقاماً إيمانياً بديعاً مشابهاً للتضرع وهو "الاستكانة لله" يقول الله (وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ)[المؤمنون، 76]

هذه التغيرات التي تطرأ على الفرد والمجتمع بشكل عام يريد بها الله أن نعود إليه كما يقول الله (وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)[الأعراف، 168]

هذا هو الدرس الأساسي في ظاهرة المصائب الجالبة للهموم الفردية والمجتمعية، كالفقر والمرض والأزمات الاقتصادية والكوارث الطبيعية، يريد الله جل وعلا أن تكون جسراً إليه سبحانه، يريد الله بها أن توقظ قلوبنا فتستكين لله، وتتضرع له سبحانه، وتتعلق به جل وعلا، قارن هذا بنمط تعاملنا مع هذه الظواهر يستبِن لك بعدنا عن الحقيقة الكبرى الناظمة للقرآن..

ومن التعابير الشمولية التي استعملها القرآن لتربية هذه الحقيقة الكبرى في النفوس قول الله سبحانه في خواتيم سورة الأنعام (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)[الأنعام، 162]

فانظر كيف شملت هذه الآية أصول العبادات، والحياة، والممات؛ وجعلت كل ذلك لله سبحانه.. قد يعرف الكثير من الناس اليوم كيف يصلي لله، وكيف يحج لله.. لكن القليل من الناس يدرك كيف يحيا حياته لله، وكيف يموت لله؟! وهذه الآية العظيمة تزكي النفوس بهذا المقام العظيم الذي هو لب القرآن..

ويحدثنا مطلع سورة الأنفال عن إرهاصات معركة بدر، ثم تفاعلاتها وتطوراتها بين الاستيلاء على قافلة قريش أو المواجهة العسكرية، حتى يصل السياق إلى النصر العظيم الذي حققه المسلمون في قتالهم لجيش الكفار وسحقهم.. أتدري أين العجب في ذلك كله، أن القرآن بعد شرح هذه الأحداث المتلاحقة يعقب تعقيباً مدهشاً في تربية التعلق بالله ونسبة الفضل له سبحانه، بالله عليك تأمل هذا التعقيب القرآني على غزوة بدر:

(فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى)[الأنفال، 17]

يالله العجب .. فالصحابة المجاهدون هم الذين قاتلوا، والنبي –صلى الله عليه وسلم- هو الذي رمى التراب وقال "شاهت الوجوه"، ومع ذلك يقول القرآن: لا، لستم أنتم الذين قتلتموهم، ولا أنت يارسول الله الذي رميت، ولكنه الله سبحانه هو الذي قتلهم، وهو الذي رمى، والمعنى أن الله هو الذي أظفركم بهم، لكن من شدة نسبة الفضل إلى الله نسب إليه الفعل ذاته! فانظر كيف تُشرَع القلوب إلى السماء وتتخلص من حبال التثاقل إلى الأرض..

وإذا تأمل متدبر القرآن هذه الآية (وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى) لوجد فيها إثباتاً ونفياً، فأثبت لرسول الله رمياً، ونفى عنه رمياً آخر، فالمثبت هو الحذف والإلقاء، والمنفي هو الإيصال والتبليغ، كما حرره ابو العباس ابن تيمية، وذكر –رحمه الله- في موضع آخر في الآية ثلاثة أوجه وناقشها، وهي في الفتاوى(15/39) لمن أراد التوسع.


__________________________________________________ __________

ويشبه هذا المعنى المذكور في سورة الأنفال آية أخرى في سورة التوبة يقول الله فيها:

(قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ)[التوبة، 14]

فانظر كيف نسب السبب لأيدي الصحابة، ونسب الأثر لله سبحانه وتعالى! فصحيح أنكم أنتم الذين تقاتلونهم لكن الله هو الذي يعذبهم بذلك!

لا يتوقف مشهد تعليق القلوب بالله في المجتمع المسلم، بل إن القرآن يوجه قارئه إلى تربية التعلق بالله في نفوس (الأسرى) .. إنهم الأسرى الذين هم مجموعة من الكفار المحاربين الذين تعذر عليهم إتمام مهمتهم الخبيثة! ومع ذلك يحثنا كتاب الله على تفقيههم في معاني (أعمال القلوب) يقول الله في سورة الأنفال:

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)[الأنفال، 70]

يجب أن يدرك الأسرى أن الموضوع كله متعلقٌ بما في القلوب!

ولما ذكر الله قصة الثلاثة الذين خلِّفوا وهم كعب بن مالك وصاحبيه، وهي مرويةٌ بطولها في صحيح البخاري، شرحت الآيات حالة استغلاق الهم والغم الذي أصاب هؤلاء الثلاثة، ثم وصلت الآية إلى جوهرها وهو "الحالة الإيمانية" التي يحبها الله سبحانه، وثمّنها منهم، وجعلتها الآية ختام المشهد، يقول الله سبحانه:

(وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)[التوبة، 118]

أرأيت؟! ما أبدع عرض الآية لهذا المقام الإيماني في سياق تفاعلات الهم والغم، فبعد أن ضاق عليهم الخارج (الأرض بما رحبت) وضاق الداخل (وضاقت عليهم أنفسهم) تصل الآية إلى ذروة الإيمان (وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ) ..

ليس العجب فقط أنهم تعلقوا بالله.. بل العجب إشارة الآية إلى المبدأ والمنتهى، أعني إشارتها إلى أنه لا نجاة من الله إلا إلى الله! فالله هاهنا هو المخوف، والله نفسه هو الملاذ! هذه هي القلوب التي يحبها الله..

ومما يدلك على أن الله يريد من العبد أن يبقى قلبه متضرعاً مستغيثاً في حال الأزمة، وبعد تجاوزها.. وأنه ليس من الأدب أن تدعوا الله أثناء الأزمة ثم تغفل عن التعلق بالله بعد تحسن الأحوال، يصف الله هذا المشهد بقوله في سورة يونس:

(وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)[يونس، 12]

تأمل كيف وصفت الآية الضجر الذي يصيب الإنسان أثناء المصيبة فيدعوا الله في كل أحواله قائما وقاعداً ومستلقياً، ثم إذا كشف الله مصيبته غفل ونسي تلك اللحظات التي كان يناجي فيها ربه.. عزبت عن باله ذكرى تلك الابتهالات إلى الله حال الكرب..

وهذا المشهد الأليم الذي ذكرته سورة يونس شرحته آيات أخرى لتؤكد أهمية الموضوع، يقول تعالى في سورة الزمر:

(وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ)[الزمر، 8]

ويقول الله في سورة فصلت:

(وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ)[فصلت، 51].

والله إنني أشعر بالخجل وأنا أعلق على هذه الآيات.. ما أكثر ما يلح المرء على ربه إذا عرضت له حاجة، فإذا تحققت حاجته وحصّل غرضه طارت به الفرحة فأنسته التبتل بين يدي ربه شكراً وحمداً وثناءً..

أليس هذا هو المرور كأن لم يدع الله إلى ضر مسه؟! أليس هذا هو نسيان ما كان يدعوا إليه من قبل؟! أليس هذا هو الإعراض والنأي بعد ذلك "الدعاء العريض" ؟! يارب عفوك وسترك..

والمراد أنه إذا تأمل متدبر القرآن كيف كرر الله في تصويرات متعددة ذم من يدعوا الله في حال الضر، ويغفل في حال العافية؛ علم أن الله يريد أن يكون القلب معلقاً بالله في كل حال..

سأسألك يا أخي الغالي قارئ هذه السطور سؤالاً تبوح به هذه الكلمات المكتوبة، ولكن اجعل جوابه في صدرك، اجعلها مناجاة الأحبة بيني وبينك.. سؤالي هو: بالله عليك ألم يمر بك لحظة ركبت فيها (الطائرة) مسافراً إلى سياحة أو تجارة أو غيرها، وكانت الأمور على ما يرام، ثم وأنت في جوف السماء ارتعدت الطائرة لظروف جوية، أو رأيت طاقم الطائرة يلهثون كأنما يخفون أمراً خطراً، فكيف كانت مشاعرك في تلك الحالة؟ ألم تدعُ الله وجِلاً بالسلامة، ألم يركض أمام عينيك سريعاً شريط الخطايا والمعاصي؟ ألم يستحوذ عليك إحساس بأنك إن سلمت ستتوب بعد أن رأيت الموت؟

مرّت بك هذه اللحظة؟ إذن اقرأ كيف يصور الله ذات المشهد لكن على وسيلة مواصلات أخرى مشابهة، وتأمل كيف يعاتبنا على ذلك، يقول الله في سورة يونس:

(حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)[يونس، 22-23].

يا لبلاغة القرآن .. والله لا زال هذا المشهد يتكرر منذ أنزل الله هذه الآيات إلى يوم الناس هذا!