عنوان الموضوع : دموع المآذن بقلم الشّيخ محمد بن عبدالرّحمن العريفي
مقدم من طرف منتديات نساء الجزائر

دموع المآذن بقلم الشّيخ محمد بن عبدالرّحمن العريفي



موضوع لقيته خلال بحثي في نت فاحببت ان تقراوه ولو كل يوم صفحة

الحمد لله الّذي خلق خلقه أطوارًا، وصرفهم كيف شاء عزةً واقتدارًا، وأرسل الرّسل إلى النّاس إعذارًا منه وإنذارًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه واقتفى أثره واستن بسنته الى يوم الدّين.
أما بعد:
أيها الأخوة والأخوات فهذه وقفاتٌ وتأملاتٌ في أحوال الخاشعين والخاشعات الّذين نصبوا أقدامهم لطاعة مولاهم، فرضي ربّهم بأعمالهم وعجل لهم بشراهم، نقف على أحوالهم في الصَّلاةُ قرَّةُ عيونِ الموَحِّدين ولذَّةُ أرواح المحبين فيها يتقلبون في النّعيم ويتقربون إلى الحليم الكريم.
الصّلاة عبادةٌ عظَّم الله أمرها وشرَّف أهلها، وهي آخر ما أوصى به النّبيّ -عليه السّلام-، وآخر ما يذهب من الإسلام، وأول ما يسأل عنه العبد بين يدي الملك العلام، ومن عظم قدرها ورفعة شأنها أن الله -عزّ وجلّ- لما أراد أن يفرضها على عباده رفع خاتم الأنبياء إلى أعلى السّماء ثم خاطبه بفرضها ووعد بعظيم أجرها.
كما في الصّحيحين أنه -صلى الله عليه وسلم- قال في قصة الإسراء والمعراج:"ثم صُعِد بي إلى السّماء السّابعة فاستفتح جبرائيل قيل: من هذا؟ قال: جبرائيل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد ،قيل: فنعم المجيء جاء. قال: ثم رفعت إلى سدرة المنتهى ثم فرض علي الصّلوات خمسون صلاةً كل يوم. فرجعت فمررت على موسى فقال: بم أمرت؟ قلت: أمرت بخمسين صلاة كل يوم، قال: إن أمتك لا تستطيع خمسين صلاة كل يوم وإني والله قد جربت النّاس قبلك وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة فارجع إلى ربّك فسله التّخفيف لأمّتك، قال: فرجعت فوضع عني عشرًا. فرجعت إلى موسى فقال مثله فرجعت فوضع عني عشرًا. ثم رجعت إلى موسى فقال مثله فرجعت فأمرت بعشر صلوات كل يوم. فمررت على موسى فقال: لي مثله قال: ارجع الى ربّك فسأله التّخفيف، قال: فرجعت فأمرت بخمس صلواتٍ كل يوم، فرجعت إلى موسى قال: بم أمرت؟ فقلت: بخمس صلوات كل يوم، قال: إن أمّتك لا تستطيع خمس صلواتٍ كل يوم، فقال -صلى الله عليه وسلم-: سألت ربّي حتى استحيت منه ولكني أرضى وأُسَلم قال -صلى الله عليه وسلم -:فلما جاوزت ناداني مناد أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي "()
فنحمد الله الكريم الّذي خفف علينا العمل وعظم الصّلاة فهي خمس صلواتٍ كل يوم لكنها بأجر خمسين صلاة، نعم إنّ الصَّلاةَ صلةٌ ولقاءٌ وتعبدٌ ووفاءٌ بين العبد في الأرض والرّبّ في السّماء فهي عند الصّالحين الطّريقُ لرفع البلاء وإجابةِ الدّعاء، وانظر إلى النّبيّ العابد زكريا -عليه السّلام- شيخٍ جاوز عمره السّبعين ضعف جسده ورقّ عظمه واقتربت منيته وتأكل عمره السّنين وهو يتلفت حوله فلايرى ولدًا يركن إليه ولا ابنًا يجلس بين يديه فاشتهى أن يكون له ولد فرفع يديه في ظلمة الليل إلى الله داعيًا مبتهلًا باكيًا كما قال الله -عزّ وجلّ- عنه: {ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا * إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاء خَفِيّاً * قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيّاً * وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيّاً * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً} [مريم: 2-5]، فتقرع دعواته أبواب السّماء فينظر الله -تعالى- إلى عبده الدّاعي فإذا هو عابدٌ في محرابه يترقب إحسان ربه ويخاف من عذابه، فإذا بالبشائر تتزل عليه وهو في الصّلاة قال الله: {فَنَادَتْهُ الْمَلآئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ} [آل عمران: 39] وهكذا الرّحمات إنما تستنزل بالصّلوات.
خرج محمد بن واسع في جيش قتيبة بن مسلم فلمّا التقى الصّفان التفت قتيبة فلم ير محمد بن واسع فأرسل بعض من عنده يطلبونه، فلما عادوا إليه: قال لهم أين محمد بن واسع؟ قالوا له: وجدناه ساجدًا يحرك أصبعه ويدعو، فقال قتيبة بن مسلم: والله لأصبع محمد بن واسع في الجيش أحبّ إليَّ من ألف شابٍ طريرٍ وسيفٍ شهيرٍ فلما جاءه محمد بن واسع قال قتيبة: أين كنت؟ فقال ابن واسع: "كنت والله أهز لك أبواب السّماء" نعم، فأين المرضى عن التّعبد بالصّلوات! أين المكروبون عن الرّكعات والسّجدات بل أين المظلومون وأصحابُ الحاجات؟ إن الصّلاة هي مفتاح الأرزاق، قال الله -عزّ وجلّ-: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه: 131] ثم بين الله مصدر الرّزق فقال: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه: 132].
أقبل رجلٌ إلى ثابت البنانيّ يستعين به على حاجةٍ يريدها من بعض الكبراء مضى معه ثابت فجعل لا يمر بمسجدٍ إلا نزل فصلى فيه ركعتين حتى وصل إلى الرّجل فكلمه في الحاجة فقضاها من فوره، فلما قضيت التفت ثابت إلى صاحبه فقال له: لعلك قد شقّ عليك وقوفي عند كل مسجد وصلاتي، قال: نعم والله قد شقّ علي ذلك، فقال ثابت: "والله ما صليت صلاة إلا طلبت الله -تعالى- في حاجتك أن يقضيها وها هي قد قضيت"، نعم الصّلاة هي مفتاح السعادة.
فإذا أجدبت الأرض وانقطع القطر وهلك المال وجاع العيال فإن الصّلاة هي المفتاح نصلي.. صلاة الاستسقاء، وإذا هم العبد بشيء من أمره أو احتار في فعل شيء وتركه فإن الصّلاة هي المفتاح يصلي.. صلاة الاستخارة، وإذا أذنب و عصى شُرعت له الصّلاة، وإذا ضاق به الصّدر وتعسر الأمر شُرعت له الصّلاة، واذا حلت على العبد نعمة أو اندفعت عنه نقمة شُرع له سجود الشّكر والصّلاة، وإذا كسفت الشّمسُ والقمرُ شُرعت الصّلاة.. فهي والله رأس القربات وغرة الطّاعات، والعبد كلما كان بالصّلاة أشغل وأسرع كانت رحمة الله أقرب إليه.
وانظر إلى تلك المرأة الصّالحة مريم بنت عمران الّتي قال عنها النّبيّ -عليه الصّلاة والسّلام- كما في الصّحيحين: "ولم يكمل من النّساء إلا آسية امرأة فرعون ومريم بنت عمران" () ، كانت مصليةً عابدةً في محرابها فكان جزاؤها أن جعلها الله وابنها آية للعالمين، وأخرج منها نبيًّا وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ فلمّا بشرت بذلك أمرت بشكر الله على نعمه فزادت في التّعبد والصّلاة.. قال الله: {وَإِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ * يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} [آل عمران: 41-42]، والصّلاة تنهى صاحبها عن الفحشاء والمنكر. فلا تكاد تجد أحدًا حريصًا على صلاته إلا وجدته قريبًا من الخيرات بعيدًا عن المنكرات. قال الله -عزّ وجلّ-: { إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا * إِلَّا الْمُصَلِّينَ * الّذينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ} [المعارج: 19-23]، ولما مدح الله المؤمنين بدأ أول وصفهم بالصّلاة وختمه بالصّلاة اسمع إلى قول الله: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون: 1-2] ثم ذكر الله -تعالى- صفاتهم {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ} [المؤمنون: 3-4]، وعدد الصّفات ثم قال الله -عزّ وجلّ-: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [المؤمنون: 9-11].
ومن عظمة الصّلاة وما فيها من ركوع وسجود أنها بها تنكشف الكربة العظمى عن جميع الخلق يوم القيامة، فإذا اجتمع الأولون والآخرون أبيضهم وأسودهم كبيرهم وصغيرهم عربيّهم وأعجميهم وطال الانتظار وزاغت الأبصار وتصبب منهم العرق، واشتد الخوف والفرق، كان انكشاف الهم وزوال الكرب والغمّ بسجدة واحدة تحت العرش في الصّحيحين والمسند وغيرهما : أن الله -تعالى- يجمع الأولين والآخرين في صعيدٍ واحدٍ يُسمعهم الدّاعي وينفذهم البصر وتدنو الشّمس فيبلغ النّاسَ من الغمّ والكرب ما لا يطيقون ولا يحتملون فإذا اشتدّ عليهم ذلك ورجوا أن يفصل الله بينهم القضاء قال بعضهم لبعض: ألا ترون ما أنتم فيه؟ ألا تنظرون من يشفع لكم إلى ربّكم -عزّ وجلّ- فيقول بعض النّاس: أبوكم آدم، يأتون آدم فيقولون: يا آدم أنت أبو البشر خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه وأمر الملائكة فسجدوا لك فاشفع لنا إلى ربّك ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول آدم: إن ربّي -عزّ وجلّ- قد غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، وإنّه نهاني عن الشّجرة فعصيت نفسي.. نفسي.. نفسي اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى نوح، فيأتون نوحًا فيعتذر ثم إبراهيم ثم موسى ثم عيسى ثم يأتون محمد -عليهم جميعًا الصّلاة والسّلام- يقولون: يا محمد أنت رسول الله وأنت خاتم النّبيين غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر فاشفع لنا إلى ربك ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى إلى ما قد بلغنا؟ قال -صلى الله عليه وسلم-: فأقوم فأقف تحت العرش فأقع ساجدًا لربّي -عزّ وجلّ- ثم يفتح الله علي ويلهمني من محامده وحسن الثّناء عليه ما لم يفتحه على أحد قبلي فيقال: يا محمد ارفع رأسك وسل تعط واشفع تُشَفَّع، فأقول: يا رب أمتي أمّتي يا ربّ أمّتي أمّتي يا ربّ أمّتي أمّتي. فيقول: يا محمد أدخل من أمّتك من لا حساب عليه من الباب الأيمن من أبواب الجّنة وهم شركاء النّاس فيما سواه من أبواب ،ثم يفصل الله القضاء بين النّاس.()
وهذه الشّفاعة العظمى والنّجاة الكبرى لا تكون إلا للمصلين أما غير المصلين فلا ولا كرامة. قال الله -عزّ وجلّ-: {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْداً * وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْداً * لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْداً} [مريم: 85-87]، ما هو العهد؟ قال -صلى الله عليه وسلم-: "العهد الّذي بيننا وبينهم الصّلاة فمن تركها فقد كفر" () رواه أحمد وغيره. بل كيف يرجو تارك الصّلوات نيل الشّفاعة يوم الأهوال والويلات والنّبيّ -عليه الصّلاة والسّلام لا يعرف أمّته يوم القيامة ليشفع لهم إلا بآثار الوضوء كما روى مسلم أنه -صلى الله عليه وسلم- قال لأصحابه يومًا: وددت أنا قد رأينا إخواننا، قالوا: أولسنا إخوانك يا رسول الله؟ قال: أنتم أصحابي وإخواننا الّذين لم يأتوا بعدُ، قالوا: فكيف تعرف من لم يأت بعد من أمّتك يا رسول الله؟ فقال: أرأيت لو أن رجلًا له خيلٌ غرٌّ محجلةٌ -أي فيها بياض ونور في الوجه والأطراف- بين ظهري خيلٍ دُهْمٍ بُهْمٍ -أي سودٌ وحمرٌ- ألا يعرف خيله؟ قالوا: بلى يا رسول الله فقال: فإنهم يأتون غرًّا محجلين من الوضوء.() ليس أحد كذلك غيرهم
وكذلك الشّفاعة في الخروج من النّار لا تكون إلا للمصلين فعند البخاري أن الله -تعالى- إذا جمع الأولين والآخرين يوم القيامة، نادي مناد: ليذهب كل قومٍ إلى ما كانوا يعبدون. فيذهب أصحابُ الصّليب مع صليبهم، وأصحابُ الأوثان مع أوثانهم، وأصحابُ كل آلهةٍ مع آلهتهم حتى يبقى من كان يعبد الله وحده من برٍّ أو فاجرٍ فيقال لهم: ما يحبسكم؟ وقد ذهب النّاس؟ فيقولون: إنا سمعنا مناديًا ينادي: ليلحق كل قومٍ بما كانوا يعبدون وإنما ننتظر ربّنا -عزّ وجلّ-. وذكر الحديث وفيه أن الله -تعالى- يأتيهم في صورته الّتي يعرفون فيسجد له كل مؤمنٍ ومؤمنةٍ، أما من كان يتساهل بالصّلوات في الدّنيا أو كان يصلي رياءً وسمعةً فإنه إذا أراد أن يسجد صار ظهره طبقًا واحدًا صلبًا لا ينثني فلا يستطيع السّجود فكلما أراد ان سيجد وقع على وجهه نعم جزاءً وفاقًا. () قال الله: { يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ * خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ} [القلم: 42-43].
بل إنّ أهل الصّلاة المقيمين لها وإن دخلوا النّار فالشّفاعة منهم قريبة فإن الله -تعالى- إذا فرغ من القضاء بين عباده ومضى أهل الجنّة إلى الجنّة وأهل النّار إلى النّار، أراد بفضله وكرمه أن يخرج من النّار من يخرجه ممن كان يشهد أن لا إله إلا الله، فيأمر الله الملائكة أن يخرجوهم فيأتونهم فإذا هم في غمرات النّار وبعضهم قد غاب في النّار إلى قدميه وبعضهم قد غاص إلى أنصاف ساقيه، فتبحث الملائكة عنهم ليخرجوهم فلا يعرفونهم إلا بعلامة آثار السّجود، وحرم الله على النّار أن تأكل من ابن آدم أثر السّجود فيخرجونهم من النّار كما ثبت في الصّحيحين.
بل انظر إن شئت إلى أهل الجنة وقد جلسوا على مشارف أنهارها وأكلوا من ثمارها ونظروا إلى وجه ربها، فيتذاكرون أهل النّار فيطلون عليهم من فوقهم، فإذا أهل النّار في غمراتها يتقلبون، ومن زقومها يتجرعون، عندها يسأل أهل النّار يقال لهم ما سلككم في سقر. قال الله -عزّ وجلّ-: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدثر: 38] أي مسؤولة عن عملها {إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ * فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءلُونَ * عَنِ الْمُجْرِمِينَ * مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ} [المدثر: 39-42] نعم ما سلككم في سقر؟ ما الّذي أدخلكم النّار؟ استمع إلى الجواب. أولًا {قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} [المدثر: 43] أول سبب ذكروه أنهم ما كانوا يصلون في الدّنيا، نعم الصّلاة هي طريق دار السّلام ومجاورة الملك العلام.
روى الطّبراني واصل الحديث عند مسلم عن ربيعة بن كعب -رضي الله عنه- قال: كنت أخدم النّبيّ -عليه الصّلاة والسّلام- فقال لي يومًا: ياربيعة سلني فأعطيك، قلت: يارسول الله أسألك أن تدعوَ الله أن ينجيني من النّار ويدخلني الجنّة قال: فسكت الرّسول -صلى الله عليه وسلم- ثم قال: "إنّي فاعلٌ فأعني على نفسك بكثرة السّجود" () ، وروى مسلم عن ثوبان مولى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: قلت: يارسول الله أخبرني في عمل أعمله يدخلني الله به الجنّة فقال -صلى الله عليه وسلم-: "عليك بكثرة السّجود فإنك لن تسجد لله سجدة إلا رفعك الله بها درجة وحط عنك بها خطيئة". ()
نعم أقوام صالحون إذا أقبل وقت الصلاة اشتاقوا إليها وأقبلت أجسادهم عليها يتعرف بها أحدهم الى الله في الرّخاء فيعرفه بها ربّه في الشّدة، ذكر الذّهبي في ترجمة أبي عبدالله سفيان بن سعيد الثّوري أنه كان صاحب نسك وعبادة قال عنه ابن وهب: "رأيت سفيان الثّوري في الحرم بعد ان صلى المغرب قام ليصلي النّافلة فسجد سجدة فلم يرفع رأسه منها حتى نودي لصلاة العشاء"، وقال علي بن الفضيل: "أتيت أريد الطّواف بالكعبة فاذا سفيان ساجدٌ يصلي فطوفت شوطًا واحدًا فاذا هو على سجوده فطفت الثّاني فاذا هو على سجوده فوالله قد طفت سبعة أسابيع -أي تسعة وأربعين شوطًا- وهو لم يرفع رأسه من سجوده".
وقال عنه عبد الرّزاق أحد تلاميذه: لما قدم سفيان علينا طبخت له قدر سكباج -لحم مع الخل- فأكل أكلًا جيدًا ثم أتيته بزبيب الطّائف فأكل ثم أتيته بالموز فأكل، فلما انتهى من طعامه قلت في نفسي هذا سفيان العابد الزّاهد يأكل كل هذا الطّعام قال:فقام ثم شدّ على وسطه إزاره.. ثم قال: يا عبد الرّزاق، قلت: لبيك، قال: يقولون اعلف الحمار ثم كده.. ثم قام يصلي حتى الصّباح، نعم تعبدٌ صادقٌ اذا قام أحدهم في محرابه نسي الدّنيا وما عليها فاذا وقع هؤلاء في الكروبات جأروا بالدّعوات فاستجاب ربّ الأرض والسّماوات.
سفيان الثّوري دعاه أبو جعفر المنصور ليوليه القضاء فلمّا مثل سفيان بين يديه قال له أبو جعفر المنصور قال: إنّا نريد ان نوليك القضاء في بلدة كذا؟ فأبى عليه سفيان، فأصر عليه ألو جعفر وكرر عليه الكلام وسفيان يأبى عليه، فقال له أبو جعفر: إذًا نقتلك، قال: افعل ما شئت، فقال أبو جعفر: يا غلام النّطع والسّيف، فأقبلوا بالنّطع، وجلد يوضع تحت رأس الرّجل حتى إذا قطعوا رأسه ما تتسخ الأرض بدمائه وفرثه، ثم أقبلوا بالسيف فلمّا رأى سفيان الموت أمامه عَلِم أنّ الأمر جد، فقال: أيها الخليفة أنظرني إلى غدٍ آتيك في زي القُضاة، فلمّا أظلم عليه الليل حمل متاعه على بغلٍ وركب على بغلٍ ولم يكن له زوجةٌ ولا أولاد، وخرج من الكوفة كلها هاربًا، فلما أصبح أبو جعفر انتظر أن يقدم إليه أبا عبدالله سفيان الثّوري قلم يقدم عليه فلما أضحى وكاد أن يأتي الزّوال سأل بعض من حوله، قال: التمسوا لي سفيان الثّوري، فالتمسوه ثم رجعوا إليه فقالوا: إنه قد خالفك وهرب في في السّحر في ظلمة الليل، عندها غضب أبو جعفر غضبًا شديدًا ثم أرسل إلى جميع الممالك، أنه من جاء بسفيان الثّوري حيًّا أو ميتًا فله كذا وكذا.
هرب سفيان الثّوري فلم يدري أين يذهب؟ فهم أن يذهب إلى اليمن فنيت النّفقة الّتي عنده فأجر نفسه عند صاحب بستانٍ في قريةٍ على طريق اليمن فأخذ يشتغل فيه أيامًا ثم في يومٍ من الأيام دعاه صاحب البستان وقال له: من أين أنت يا غلام؟ وهو لا يعلم أنه هذا هو سفيان العابد الزّاهد عالم المسلمين وإمامهم، قال: أنا من الكوفة، قال: رطب الكوفة أطيب أم الرّطب الّذي عندنا، قال: أنا ما ذقت الرّطب الّذي عندكم، قال: سبحان الله النّاس جميعًا الأغنياء والفقراء بل حتى الحمير والكلاب اليوم تأكل الرّطب من كثرته وأنت ما أكلت الرّطب، لم لم تأكل من المزرعة رطبًا فأنت تعمل فيها؟ قال: لأنّك لم تأذن لي بذلك، فلا أريد أن أدخل إلى جوفي شيئًا من الحرام، فعجب صاحب البستان من ورعه وظنّ أنّه يتصنع الورع، فقال: تتصنع الورع، والله لو كنت سفيان الثّوري، وهو لا يعلم أنه سفيان، سكت سفيان ومضى في عمله وخرج صاحب البستان إلى صاحب اللهو يتحدث معه، فأخبره بخبر سفيان فقال: عندي غلامٌ يعمل في بستاني من شأنه كذا وكذا ويتصنع الورع والله لو كان سفيان الثّوري، فقال له صاحبه: ما صفة غلامك هذا الّذي استجرته؟ قال: من صفته كذا وكذا، قال: والله هذه صفة سفيان والله ما أظنّه إلا هو فتعال اقبض عليه حتى نحوز على جائزة الخليفة.
فلمّا أقبلوا إلى البستان فإذا سفيان قد أخذ متاعه وفرّ إلى اليمن، وصل -رحمه الله- إلى اليمن ثم اشتغل عند بعض النّاس فلما لبث إلا اتهموه بالسّرقة فحملوه والي اليمن، فلمّا دخلوا به إلى الوالي أقعده بين يديه فإذا هم يصيحون به، فلما نظر إليه الوالي فإذا شيخٌ وقور عليه سيماء أهل الخير والصّلاح فقال له: سرقت؟ قال: لا والله ما سرقت، قال: هم قالوا أنك سرقت، قال: تهمةٌ يتهمونني بها فليلتسوا متاعهم أين يكون؟ فأمرهم والي اليمن بالخروج من عنده حتى أسائله -أي أحقق معه- ثم قال له: ما اسمك؟ قال: أنا اسمي عبد الله، قال: أقسمت عليك أن تقول اسمك فكلنا عبيدٌ لله، قال: أنا اسمي سفيان، قال: سفيان ابن من؟ قال: سفيان بن عبد الله، قال: أقسمت عليك أن تخبرني باسمك واسم أبيك وتنتسب، فقال: أنا سفيان بن سعيد الثّوري، فانتفض الوالي وقال له: أنت سفيان الثّوري؟ قال: نعم، قال: أنت بُغية أمير المؤمنين؟ قال: نعم، قال: أنت الّذي فررت من بين يدي أبي جعفر المنصور؟ قال: نعم، قال: أنت الّذي أردك على القضاء فأبيت؟ قال: نعم، قال: أنت الّذي جعل فيك الجائزة، قال: نعم، عندها خفض الوالي رأسه قليلًلا ثم رفعه، ثم قال: يا أبا عبد الله أقم في كيف شئت وارحل منها متى شئت، فوالله لو كنت مختبئًا تحت قدمي ما رفعتها عنك.
عندها خرج سفيان فما طاب له المقام في اليمن فخرج إلى اليمن، فسمع به أبو جعفر بأن سفيان الثّوري في مكة وكانوا على إقبال وقت الحج، فعندها أرسل أبو جعفر الخشابين قال لهم: اقبضوا عليه انصبوا الخشب وعلقوا عليه عند باب الحرم حتى إذا أتيت أنا أكون أنا أقتله بنفسي حتى أذهب ما فيه غيظي عليه، وصل أولئك الخشابون وكان أبو جعفر يمشي في طريقه وراءهم يريد أن يصل بعد وصولهم مباشرة، وصل الخشابون وبدأوا يصيحون بالنّاس من لنا بسفيان الثّوري؟ من لنا بسفيان الثوري؟ فلما دخلوا وعَلِم بهم سفيان فإذا هو بين العلماء قد أحاطوا به ويسألونه وينهلون من علمه فلمّا سمع العلماءأولئك الخشابين ينادون على سفيان قالوا: يا أبا عبد الله لا تفضحنا فنقتل معك، عندها قام سفيان وتقدم حتى وصل إلى الكعبة ثم يديه فقال: اللهمّ أقسمت عليك ألا يدخلها أبو جعفر، أقسمت عليك ألا يدخل أبو جعفر مكة، أقسمت عليك ألا يدخلها أبو جعفر أي يدخل الجنة، فإذا بهذه الدّعوة ترتفع إلى السّماء ثم ينزل ملك الموت على أبي جعفر فيقبض روحه على حدود مكة ويموت أبو جعفر، ويدخل أبو جعفر إلى مكة ميّتًا هامدًا محمولًا على النّعش ويصلى عليه في الحرم.
يتبع


>>>>> ردود الأعضـــــــــــــــــــاء على الموضوع <<<<<
==================================




__________________________________________________ __________

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة ميسون المغربي

وفيك بركة اسعدني مرورك اللذي عطر صفحتي وزادها اريجا


__________________________________________________ __________


__________________________________________________ __________


__________________________________________________ __________