عنوان الموضوع : عودة بعد غياب............
مقدم من طرف منتديات نساء الجزائر

عودة بعد غياب............








عند هدأة السحر الغائب في ليالي تموز , و تحت أنوار القمر التائهة بين أغصان النارنج و الليمون, و في فضاء بيته المعتق بذكريات الماضي الجميل , كانت تتنفس الأرجاءُ رائحة الياسمين تعبق بها سماء الدار و زواياها , و على صفحة البحرة الدافقة بماء بردى كان البدر يتلألأ كقنديل في جوف الظلام , فيعكس النورَ على وجهه المحفور بريشة السنين , ملقيا على محياه بهاءً فوق بهاء التقوى و الصلاح , مما يزيده تلألؤا و ضياء ,وكأنك بين قمرين منوَّرَين , أحدُهما في سماء الدار و الآخرُ في جوفها .

و تمتد يده المرتعشة تستقي الماءَ تطفئُ به لظى الآثام و المعاصي فتمحوها , كما يستقي الظمآن شربةَ الماء يَبُلُّ بها حرقة صدره و فؤاده فيروِّيها .

و أتم وضوءَه لينفتل إلى زاويته المحببة في فسحة الدار تحت شجرة الكباد ,حيث اعتادت رفيقة دربه أن تنتظره سَحَرَ كل ليلة و قد أعدَّت المكان ليضمهم في صلاة ما فتروا عنها منذ اقترنا.

و وقف في صلاته تلاصقه زوجته, و قد أحنى مَرُّ السنين و مُرُّها قاماتٍ منهما و أمال أعناقا , و انطلق لسانه يرتل في أناة و هدوء كلام ربه , فانساب صوتُه الرَّخيُ المتهدجُ في جَنَبَات الدار لينبه أسماع ابنهما الغافل في حياته و السادر في ملذاته .

كان شابا في ميعة الشباب و عنفوانه , ما عرف يوما في البيت صاحبا إلا أباه و أمه , و قد أحاطاه بكل عناية و رعاية , فقد كان هبة السماء لهما بعد طول انتظار و لهفة, أحباه حبا اختصر لهما الحياة كلها , فإذا ضحك ضحكت لهما الدنيا, و إن حزن عبست في وجوههما الحياة .

و كان لهما بسمةَ الأيام مهما تكدرت , و مسرةَ الليالي كلما اكفهرت , لا يعرفان سمرا إلا معه , و لا يحبان متعة مع غيره .

عرفا أنه غرس صغير و نبت ضعيف فوهباه عنايتَهم , و رأوه صفحةً بيضاءَ مفتوحةً , فخطَّا فيها ما رضياه من خلق و دين .

وكان الحديث إليه متعة , و اللعب معه متعة , و تعليمه متعة , و تعنيفه متعة , فكان متعةَ الحياة و بسمة الأيام , و صار الغرسةَ التي يزرعانها ليستظلا بها من لأواء الدنيا في قابل الأيام و من هول الموقف في آخر الزمان.

و لازماه كظله لا يفارقانه أبدا , و لا يغيب عن أنظارهما لحظة , و لما خطى إلى السنة السادسة من عمره كان أولُ فراقٍ و أقسى غياب , و فارقهما أولَ مرة في حياته , فارقهما إلى مدرسته , فما أسلماه إلى مُدَرِّسَتِه يومَها إلا بعد لأي و مشقة , وكانت -بعد ذلك - قلوبهما تظلله في جيئته و ذهابه , فلا يسلما يديه إلا لباب مدرسته , و كم ساءهما طول انتظاره تحت لفح الشمس عند بابها, فكانت سحابةُ النهار قاتمةً لا يبعث فيها الحياة إلا همساتُه و ضحكاتُه تملأ الدار و تضج في جنباتها عند عودته عصرا من مدرسته.

و ظهرت ثمرة عنايةِ أهله فيه واهتمامِهم به , فكان مقدماً بين أصحابه في مدرسته في كل مراحلها , أحبه أساتذته و ألفه رفاقه , فطلبوا وده و تنافسوا على نيل ثقته و محبته .

وأحبَّ رفاقه و أحبوه , و رأى فيهم منفذه للحرية و سبيله للخلاص , فهو على حبه لأبيه و أمه لكنه بدأ يعرف معنى العيش خارج عشهما , و أخذ يحرص على الانعتاق من إسارهما.

و في المرحلة الثانوية كان أصدقاؤه - الذين جهلهم أهلُه و ما باح لهم بخبرهم يوما- هم خاصتَه و مستودعَ سره , يقضي معهم بياض النهار و هزيعا من الليل , يفضي إليهم بدخائله , و يشركهم في مغامراته , فقد كانوا شبابا اشتعلت بين جوانحهم جَذْوَةُ الشهوة تتقد كلما مسها همس صبية أو طيف فتاة تخطِر أمامهم في غنج و دلال .

و مشت أولى خطواته في طريق المتعة , لا يحجزه عنها صاحبٌ ناصح و لا يمنعه منها رفيقٌ صالح , فقد استخلص من الأصدقاء أفجرَهم , و أصفى الود لأسوئهم, يميل نحوهم بقلبه , و يصغي إليهم بسمعه , و يحاكي حالهم ببصره.

و كم كان يعود إلى بيته في الأسحار بعد لياليه الحمراء ليجد أبويه تحت شجرة الكباد , فيرمق مشهد الحب بعين دافئة بوقود الذكرى , ويتنسم عبق الطهر يظلل المكان بهالة قدسية , فلا يكاد يصل إلى غرفته إلا وقد تَلَوَّعَ قلبُه بجمر الذكرى , يوم كان عنوانَ البراءة و النقاء , ومثالَ الطاعة و الولاء .

و يطرق أنينُ الابن في لوعته قلبَ الأبوين في صَلاتهما , فتضطرب الأفئدة و ترتعش الأطراف , و تلهج الألسنة و تلتهب الدعوات .

وكلما غاب الابن عن أبويه وتمادى في جفائه , ازداد حرصهما على القرب منه و التلطف إليه , و ما تركا سبيلا إلى نصحه إلا سلكاه , بالبسمة يقابلان بها عبوس وجهه , و بالكلمة الطيبة يطفئان بها سعير غضبه , و باللهفة يبذلانها عند اشتداد حاجته .

و ما يأس الأبوان يوماً من رحمةٍ تظلل ابنَهما من حَرِّ حياته اللاهبة بالمعاصي , و تقيه من وقدة غفلاته المستعرة بالشهوات , فكانا كل يوم على موعد مع ربهما يبثانه الشكوى مريرةً متأوهةً , و يطرحان بين يديه الغُصة خانقةً متحسرةً .

و في ذات ليلة , ومع نسيم السحر يلامس صفحة خده , كانت آهات الأبوين تصافح جذوة قلبه, فسال ماء عينيه سخيا لاهبا , تجود به الروح ندما على غفلتها , و تسكبه النفس اعتذارا أمام رحمة بارئها .

و تراءت له من خلال سجاف الزمن ذكرياتُ الماضي الجميل , و لاحت له من بعيد صورتُه الطاهرة بين أبوين صالحين يسكبان في قلبه ما شاء من محبة و رحمة , ويسقيانه ما طاب له من حنو و صفاء , وفي لحظة صارخة بالألم نهض من فراشه الآثم يفارقه بنظرات الوداع الأخير , و شمَّر عن ساعديه أمام البحرة الدافقة يطهر القلب ما استطاع من أوزاره ومعاصيه , و وقف لأول مرة بحذاء أبيه و أمه يؤمِّن على دعائهما كما اعتاد في خاليات الليالي ,و يبكي في أحضانهما كما كان يبكي في سالف الأيام .

و تحت شجرة الكباد ,و في ظلال قمر الأسحار , و مع نسيم الفجر ينساب عليلا يلف صحن الدار بنفحة السماء , احتضن الأبوان فَلْذَةَ كبدهما كما كانا يفعلان في أيام الزمن الجميل , و اشتما ريحه كما يَشَمَّان عطر الحبق و الياسمين , و طال العناق , و خفق الجنان , و هدأ اللسان , و ثار الدمع , وتأوه الوجدان , وكانت أحلى ليلة من ليالي العمر , و ألذَّ طاعةٍ نَعِمَا بسكنها منذ اقترنا.

و عاد العصفور إلى عشه , و اهتدى النبض إلى فؤاده , و امتزجت نبضات القلوب المتعانقة , و عرش الورد على العيون الدامعة , و كان الوعد و كان العهد .

- أنت نفحة روحي و أمل حياتي ولست ظلي و خيالي .

-وأنتما بسمة عمري و فرحة قلبي و لستما لعبة من ألعابي و متاعي .

-أنت ابني و صديقي و أخي و حبيبي و لست عبدي و لا أسيرا في مملكة حياتي .

- و أنتما مأوى فؤادي و حضن مسرتي و لكما مني كلَّ حبي و طاعتي و ولائي .

و من بعيد تراءت شجرة الكباد -بمن أظلتهم -كقمر يتلألأ في أرض عمها الظلام , و كنجمة في دجى الليل يخيم على مجتمع منقسم مقطع الأوصال ,

فمتى يا ترى تتلألأ كل أشجار الكباد . ....................


>>>>> ردود الأعضـــــــــــــــــــاء على الموضوع <<<<<
==================================


قصة رائعة

اللهم احفظ اولادنا

مشكورة اختي



__________________________________________________ __________

ما اجمل التوبه
بارك الله فيك


__________________________________________________ __________



__________________________________________________ __________

مشكورين يالغلااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااا&& &&&&&&&&&&&


__________________________________________________ __________

اشكرك حبيبتي وربي قصه تجنن بعيده عن التكلف

عزيزتي يعجز الكيبورد عن التعبير عنك كل مااقوله لك تستحقين التقييم وانتظر كل جديد