عنوان الموضوع : موت العلماء -اسلاميات
مقدم من طرف منتديات نساء الجزائر

موت العلماء



موت العلماء ثلمة في الإسلام لاتسد.....
________________________________________
موت العلماء ثلمة فى الإسلام لا تسد) مقال للشيخ عبدالله الحكمى عن العلامة ابن عدود رحمه الله
الحمد لله الذي تفرد بالبقاء ، وقضى على كل حيّ بالفناء ، وصلى الله وسلم على ختام الأنبياء وإمامهم الذي خاطبه ربه بقوله إنك ميت وإنهم ميتون ) الزمر : 30 .
ورضي الله عن آله وأصحابه الأئمة الحنفاء ، والبررة الأتقياء ، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم واستنّ بسنتهم إلى يوم الجزاء .
أما بعد : فقد كنت اتـهيّـأ للكتابة عن الحلقة الثانية من المقال الشهريّ لـ (( موقع المتون العلمية )) (( صور من تواضع العلمـاء ...)) والذي اخترت فيه الحديث عن تواضع أربعة من العلمـاء ، مضت الإشارة إلى تواضع اثنين منهم ، هما الشيخ عبدالله العقيل ، وشيخ مشايخنا الشيخ حافظ بن أحمد الحكميّ رحـمه الله تعالى ، وسيكون المقال الشهريّ لشهر جـمـادى الأولى عن تواضع شيخنا العلامـة الجليل ، علامة المعقول والمنقول ، الشيخ المرابط محمد سالم بن محـمد عليّ بن عبدالودود الهاشميّ ، الشهير بـ (( ابن عَدُّود )) .
بينما كنت أتهيأ للبدء في الكتابة عن تواضع هذا العلم الفذّ ، إذ بي أتلقى خبر الفاجعة بوفاته ورحيله عن دنيانا ، فماذا أقول ؟ وما الذي سيبوح به قلبي المجروح ، وما الذي ستخطه أناملي عنه ؟
رحم الله من كان الكاشف للمعضلات العلمية التي تعترضني بعد أن أحـار في معرفتها ولايفضي بحثي في الكتب ، وسؤال أهل العلم عن معرفتها ، فلقد كان والله مِـثْـقَبـاًً ، جمع الله له بين الحافظة الجامعة ، والفهم الثاقب .
فمن للقوافى بعد حسان و ابنه***و من للمثانى بعد زيد بن ثابت
لعمرك مالرزية فقد مال***و لا شاة تموت و لا بعير
و لكن الرزية فقد حبر***يموت بموته علم كثير
فما كان قيس هلكه هلك واحد***و لكنه بنيان قوم تهدما
رحم الله الإمام الحافظ المشارك ، الجامع بين العلوم العقلية والنقلية ، البصير بدقائـقها وسائلها ومقاصدها .
فإن سألته عن دقائق التفسير أجابك بما لم تسمعه أو تقرأه .
وإن استدل بآيات القرآن المبين فإن نظائر الآيات تـتـزاحم على لسانه .
ولقد سمعته غير مرة يتكلم في التـفسير ، وما في آيات الكتاب العزيز من أسرار كلاماً يكتب بماء العيون ومرة قال لي : اجمع ما تفرق من تفسير شيخ الإسلام ابن تيمية ، فقلت : إن هذا لا يقوم به مثلي ، ويحتاج إلى فريق من أهل العلم ، ثم ذكر لي وللحاضرين أمثلة من اختيارات ابن تيمية في التفسير ، وقال : إن اختـيارات ابن تيمية تنبني على وجوه تتعلق بالإعراب وأسرار العربية ، وتكلم عن فـهـم للإمام ابن تيمية يتعلق بالضمائر التي وردت في آية في التوبة ، ودلّل على صحة هذا الاستنباط ، ومن سمعه في هذه الجلسة شعر بالانبهار .
ثم قال لنا : نحن نتعلم التفسير من هذا الإمام ، وتمنيت حينها لو كنت اصطحب آلة تسجيل لأسجل هذا الكلام النادر العجيب .
وسمعته مرة يتكلم عن وجوه القراءات ، وبعض الأسرار المتعلقة بالمخارج والصفات كلاماً لا يتيسر لأحد أن يجده في مرجع معـيّـن .
وإن استدل شيخنا المرابط بالأحاديث فإنه يورد الحديث بألفاظه ، وما سمعته يقول بمـا معناه أو كمـا قال رسول اللـه صلى الله عليه وسلم .
وإن تكلم عن مسألة لُغوية أتى بما في المعاجم الكبيرة من مفردات تتعلق بالمسألة التي يتحدث عنها لا يتصرف فيها بالمعنى ، مستخضرًا الشواهد الشعرية على ما يذكـره .
وإن أنشد الشعر ، فإن الكثير من شعر العرب بمثابة النَّـفَس عنده .
وإن تكلم عن السير ، والأخبار ، والأنساب ، فالعجب العجاب .
أقول هذا الكلام ، وأنا أعلم علم اليقين أن هناك من سيحمله على المبالغة والغلو ، ومن جهل شيئاً أنكره وتالله ما ذكرت إلا ما رأيت ، وكل من جلس إلى الشيخ وحضر مجالسه يقول مثل كلامي هذا ، وربمـا أكثر .
ولقد قلت في ترجمة الشيخ في الموثق ص (25) بعد الأسطر السابقة :
(( ومن لديه شك في هذا الأمر فإن الشيخ على قيد الحياة ، فليجلس إليه ليسمع منه كما سمعت ، ويرى منه كما رأيت ، نسأل الله تعالى أن يمتع الأمة به )) .
أما الآن فقد رحل الشيخ عن دنيانا بما معه من علم غزير ، وفهم مستنير ، أسال الله تعالى أن ينزل عليه شآبيب رحمته ورضوانه .
إن الموت حق ، وإن العين لتدمع ، وإن القلب ليحزن ، وإنا لفراق شيخنا لمحزونون ، ولا نقول إلا ما يُرضي ربَّنا ، وإنا لله وإنا إليه راجعون .
* بعض الصفات التي تميز بها شيخنا رحمه الله تعالى :
أود في هذه العجالة أن أشير إشارة عابرة إلى بعض ما تميز به شيخنا رفع الله منزلته من صفات منها :
1- يعد الشيخ قلعة المنهج السلفيّ في موريتانيا ، ومحضرته (( محضرة آل عدّود)) تعقد فيها دروس العقيدة على منهج السلف ، وحين انـتـشر متن (( مجمل اعتقاد السلف )) وهو نظم في عقيدة السلف ، جعله مقدمة لنظم مختصر خليل ، ثارت ثائرة بعض الصوفية .
وكان لايساوم في هذا الأمر ، فحين طلبتُ منه أن ينظم لنا متناً في قواعد التفسير ، إذ لايوجد متن في هذا العلم يجمع بين الشمول وسلامة النظم ، فقال : هل تعرفون متناً مناسباً للعقد - إي للنظم - فإن كتب المعاصرين لاتصلح للعقد .
قلت له : يا شيخنا إذا كنت لم تجد كتاباً شامـلاً في هذا الباب يصلح للعقد ، فهل سنجد نحن الجهلة مايصلح لذلك ؟ !
ولما كنت شديد الرغبة في نظم متن في هذا العلم الجليل قلت له : يا شيخنا ما رأيك في نظم كتاب (( الإكسير في علم التفسير )) للطوفيّ الصرصريّ ، فقال : - وهذا هو الشاهد من القصة - لديّ تحفظ عليه بسبب ما أثير حوله رحمه الله تعالى من كلام في أمور الاعتقاد .
وكان بإمكان الشيخ أن ينظم لنا متناً مشتملاً على أهم القواعد التي تكونت لديه مدة اشتغاله بهذا العلم وغيره ، ولكن كثرة أعماله واعتلال صحته في السنوات الأخيرة ، وُبعد الشُّقة بيني وبينه : أسباب حالت دون تحقيق هذه الأمنية الغالية ، والحمد الله على كل حال .
2- كان شيخنا عظيم الإجلال لشيخ الإسلام ابن تيمية ورجال مدرسته الأعلام كالإمام ابن القيم رحمهم الله تعالى ، وقد مضى شيء يتعلق بتعظيمه لابن تيمية ، وهو عنده بمثابة مجدد القرون .
وفي (( باب زكاة الفطر )) من (( الموثق )) في نظم عمدة الفقه لابن قدامه ص (118) قال مشيراً إلى ترجيح الشيخين أن من أخر زكاة فطره بعد صلاة العيد تكون في حقه قضاء :

و يستحب دفعها قبل صلا....ة العيد يوم الفطر ، و الذ أمهلا
إلى غروبه عصى بل قد قضى***بأنها بعد صلاته قضا
للأثر الوارد نجل القيم***و شيخه بل شيخ الاسلام الكمى
وذكر رحمه الله تعالى أن المصراع الثاني من البيت كان بهذه الصيغة : (( وَشَيْخُهُ بَلْ شَيْخُ كُلِّ مُسْلِمِ )) قال : ولكنني أبدلته بقولي : (( بَلْ شَيْخُ الِاسْلامِ الْـكَمِي )) خشية اتهامي بالغلو .
وكان يجل علماء هذه البلاد وعلى رأسهم إمام هذا العصر الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله تعالى ، وحين التقيت به بعد وفاة الشيخ بأشهر ، قال لي : كيف أنتم بعد رحيل ذلك العلم الفذ ، أو كلاماً نحوه وكان الحزن بادياً على محياه ، ثم قال : لقد كان وجـوده أمنة لنا فصرت بعد رحيله لا أدري ماذا يحصل لهذه الأمة .
وقد عبر عن هذا في مرثيته له ، والتي أوردتـها بتمامها في المقدمة الدراسية للموثق
ص (33-34) .
قال رحمه الله تعالى :
قد نعوا لى عبدالعزيز بن باز***فالتهانى لدى مثل التعازى
بخَّرّتْ حرقة الأسى دمعة العيـ....نين حتى كان البكاء بغاز
كان شيخ الإسلام حقا بذا العصـ....ـرفما إن له به من مواز
لستُ أنسى دارا له كدار ابن عبا....س له للعفاة دون امتياز
فأرى الإخوة الأفارقة السو....د ينادون قبل أهل الحجاز
و التهامين يغبطون الألى جا....ؤوا من الصين أو من القوقاز
كل آن يرن هاتف مستفـ....ـت فيلقى جواب شاف عاز
كم كتاب له أبان به الديـ.....ـن بلا دلسة و لا إلغاز
كم مقام مع الملوك به قد.....أبرز الحق أيما إبراز
كم غريب حالت شفاعته دو.....ن أذاه بدون أى احتراز
كم عطاء جادت يداه به يدّ.....دان و الموسعون أهل اكتناز
رب حلم منه على الجهل غطى..... و أناة طغت على استفزاز
و صلات من عنده واصلات.....و عدات مضمونة الإنجاز
كنتُ ما عاش مطمئنا فقد أصـ....ـبحتُ من بعده على أوفاز
لم أر البسط وافيا بالذى أعلـ....ـلم منه فلذتُ بالإيجاز
لا توفيه حقه اللسن فى سو.....ق عكاظ السجال أو ذى المجاز
أكرم الله نزله و حباه......فى أعالى الفردوس أسمى مفاز
و أرانا فى الأهل قرة عين.....و أدام الهدى ذا اعتزاز
3- لم يكن الشيخ عالماً غزير العلم يلقي الدروس ويؤلف الكتب فحسب ، وإنما كان إلى جانب ذلك يهتم بقضايا الأمة ، ويسأل عن أخبارها ، وله شعر كثير عن أحوالها : آمالها وآلامها ، ولعل شيخنا محمد الحسن وأبناء الفقيد وعلى رأسهم ابنه الشيخ محمد ، وتلاميذه ينشطون لجمع شعره ، وهو كثير يقع في مجلدات .
وقد رحل شيخنا إلى أكثر أرجاء الدنيا يحضر المؤتمرات ، ويلقي المحاضرات ، ويشارك في كثير من الندوات .
تواضعه :
تواضع الشيخ عجيب كغزارة علمه ، ولاغرو فقد تربّى على هذا الخلق منذ نعومة أظفاره ونشأ عليه وتأدب به طوال حياته ؛ لأن المجتمع الذي نشأ فيه يعتَـبِـر هذا السلوك قربة إلى الله تعالى .
وفي بداية شبابه ، بل مازال حديث عهد بمرحلة الصِّبا ، وفي العشرين أوبعدها بيسير ، وهو سن الحماسة والإندفاع غالباً ، في هذا السن سافر إلى سوريا ، ولا أعرف الدافع إلى سفره هذا ، وحينما وصل إلى عاصمتها دمشق عرّفه مضيفه على كبار علماء سوريا ، وجمعه بهم لقاء حافل ، ووجهوا إليه سؤالاً أجاب عليه الشيخ إجابة أدرك بعدها كما يقول أنه وقع في فخ لم ينتبه له ، وكان بإمكانه أن يجيب إجابة يحترز فيها لنفسه .
فما السؤال الذي وجهوه إليه ؟
إنه سؤال معتاد مرتبط بسمعة شنقيط العلمية في بلاد العالم الإسلاميّ .
قالوا له : هل مازال في إقليم شنقيط حفاظ كما كنا نسمع من قبل ، أيـام ابن التلاميد ويحظيه بن عبدالودود وابن مُـتّـالي ، وغيرهم ؟
فأجاب قائلاً : نعم مازال هناك حفاظ .
فعقدوا له اختباراً ، ندم معه كما يذكر على هذا الجواب ، وكان في وقتها قد فرغ من حفظ أهم المتون في علوم الوسائل والمقاصد ، مما هو مقرر في المحاضر ، مع تلقيه لشروحها ؛ فقد جاء في ترجمة لواحد من أبرز تلاميذه : أنه فرغ منها وعمره 17 عاماً .
وكان اختبارهم له في النحو العربيّ ، فأجابهم على أسئلتهم المتعنته لأنهم أرادوا اختباره .
قال بعض الذين حضروا هذا المجلس : لقد أذهل الحاضرين بحفظه ، وسرعـة استحضاره فقالوا : الآن نـقـرّ أن شنقيط بلاد الحفظ والحفاظ .
وكيف لا يذهلهم ، وهو يحفظ في تلك الأيام متوناً عدة أشهرها (( الكافية الشافية )) لابن مالك ، والتي تشتمل على مئات الشواهد النحوية ، ويحفظ كذلك (( ألفية بن مالك)) مع زيادات ابن بونة عليها ، وما يتعلق بها من المقاطع الحاصرة للمشكلات النحوية ؟
ويذكر رحمه الله : أنه لـُـزَّ بسبب هذا الاختبار في قَـرَن ، لولا أن الله أكرمه بحفظه للكافية الشافية .
فانظر إلى تواضع العلماء حقيقة لا ادعاءً .
ومن عجيب تواضعه : أنه يحضر المجامع الفقهية ، ولايتكلم إلا إذا طُلِب منه ، أو إذا استفزّ بخطأ علميّ فاحش ، أو سمع نسبة كلام إلى عالم معتبر لايصح عنه ؛ فإنه يتكلم ، وإذا تكلم لفت الأنظار، وشد الأسماع .
وحين اطلع على ما كتبته عنه في مقدمة (( الموثق من عمدة الموفق )) تأثر وانزعج ؛ لأنه لم يره إلا بعد أن تسلمه مطبوعاً ، وقال لي حينما هاتفته ، بعد اطلاعه عليه : (( يابنيّ لقد وقعتَ في مبالغات ، وذكرتَ أشياء لا يحسن أن تذكرها، فمـاذا أقول للناس )) .
قلت له : ياشيخنا : إني أردت بهذا أن أعرِّف بكم طلاب العلم في المشرق ؛ فإن الكثير منهم لايعرفونكم ولكنه لم يكن مرتاحاً لما كتبته ، بل قال لابنه الأكبر الشيخ محمد : إنني الآن لا أستطيع أن أهدي (( الموثق )) بسبب ما كُتب في مقدمته من إطراء لامسوغ له ، في نظره رحمه الله تعالى رحمة الأبرار .
وفي نظم (( الموثق )) لفتات واضحة تدل على تواضعه وكمال أدبه مع العلماء ، فإنه قال في موضع : عَـلّ مراده ، أي لعل مراد بهاء الدين المقدسيّ كذا ، كما جاء في كتاب الوصايا من كتاب (( العدة )): ص (173) .
فصحح الاولى كالاخرى قلتُ عل......مراده إذا أجيز ما فعل
وفي باب الغنائم وقسمتها : ص (296) نسب الإمام البهاء إلى الإمام مالك القول بعدم جواز وقف الأرض التي فتحت عنوة .
فتعقبه شيخنا المرابط رحمه الله تعالى مع تمام الأدب قائلاً :
و ما البها لمالك من منعه الــ......وقف عزا خلاف ما عنه نقل
ولو عثر على هذا الأمر أحد المتعالمين الجدد ، لا اعتبره زلة كبيرة ، وفرح بذلك ، وأرغى وأزبد .
ثم نصح الشيخ الواقف وطلاب العلم بأخذ أقوال كل مذهب من مصادره فقال :

و أنصح الواقف فيما جئتُ به .....بأخذ كل مذهب من كتبه
وفيه تلميح إلى احتمال أن الإمام بهاء الدين المقدسيّ نقل هذا القول المنسوب إلى مالك من غير كتب المذهب المالكيّ ، وهذا يحصل كثيراً ، لاسيما من كتب الفقه المقارن ، والأولى أن يُرْجَع في عزو أقوال كل مذهب إلى مصادره .
وقد حصلت لي مشكلة من هذا القبيل ، حيث ذكر لي بعض الأحبة قـولاً شاذاً نُسب إلى بعض الصحابة كابن عمر رضي الله عنهما ، ونسب كذلك إلى الإمام مالك رحمه الله تعالى فرجعت إلى مصدر من مصادر المالكية ، فوجدت ما يبطل هذا القول عن ابن عمرو ومالك ولا يتسع المقام إلى ذكر هذا القول الشاذ ، فدل على أهمية الاستيثاق من المصادر المعتبرة في كل مذهب .
ومن تمام أدبه مع الإمام بهاء الدين المقدسيّ قوله في (( باب الإقرار )) : بعد الكلام على جواز الاستثناء إلى النصف ، ص (321) :
و لم يبين البها ما اشتبها.....علىّ و الحجة للبها البها
ومعنى كلامه : أن حجة الإمام البهاء رحمه الله تعالى ما يتصف به من البهاء وهو الحسن مظهراً ومخبراً أي : بالعلم وصلاح القلب والعمل .
وفي نسخة قال : (( مَنْ يَـعْذِرُنِي مِنَ الْـبَـهَا )) .
وأختم كلامي عن تواضعه بماكتبته في (( الموثق )) ص (23-24) :
(( لقد أكرمني الله عز وجل بمعرفـة الشيخ واللقاء به مرات عديدة فـرأيت من تواضعه وبساطـتـه ما يـثير الدهشة ، ورأيـت من علمه وحفظه واستحضاره العجيب ما أدهشني أكثر ، مع أنني وللأسف الشديد لم ألتق بالشيخ إلامن نحو سبع سنوات فقط والحمدلله على كل حال وأعوذ بالله من الحرمان .
وفي اعتقادي أن هذا التواضع المفرط فوّت عند مشايخنا الشناقطة كـثيرًا من النفع ، ولا سيما شيخنا فهو لا يسمح بتسجيل دروسه صوتـيًّا بحـجـة أن الكلام الشفهـيّ يعتريه الحشو أحيانـًا ، ويدخله التكرار والركاكة أحيانـًا من أجل التفهيم ، مع أننا نكـتب بعض كـلامه مما يرتجله و يُـسجّـل بواسطة أداة التسجيل فنجده كلامًا مستقيمًا كأنما كتبه بخط يده ، ويُطلب منه جمع شعره الذي يبلغ المجلدات ، وجمع محاضراته وبعض أبحاثه التي كـتبها من أجل طباعة ذلك كله ، فلا يلقي لهذه الاقتراحات اهتمامـًا .
في حين تجد الكثير من المؤلفين في دول المشرق العربيّ يجمعون الخزعبلات والهراء ، أو يقوم بذلك غيرهم وتُطبع طباعة فاخرة ، وكثير منها لا يساوي الحبر الذي كتبت به .
ومن عجيب تواضعه أنني سألته عن أهم المتون التي يحفظها فأجابني قائلاً : (( أنا أحفظ القرآن )) . وحينما سمعت هذه الإجابة تملَّـكـتني في حينها الحيرة ، كيف يجيبني بـهذا الجواب ؟ وأنا أعلم يقينًا أنه يحفظ عشرات المتون والكـتب وألوف القصائد الشعرية وسمعت ما يدل على ذلك في لقاءاتي معه .
تأمّلت قوله (( أنا أحفظ القرآن )) فأدركت بعد حين أنها إجابة ذكـية ، صرفني بها عن الحديث عن نفسه وهو لا يحبّ هذا الأمر .
فما دلالة هذه الجملة إذًا ؟
وقبل أن أجيب بما فهمته منها ، أودّ أن تـقـف معي - أخي القارئ - متأملاً وقوفه عند لفظ (( القرآن )) فهو لم يقل بعده (( فقط )) ولو قال بعده : (( فقط )) لوقع الشيخ في إنكار ما يحفظ من علوم ، وحاشاه أن يقع في هذا .
فمراد الشيخ أن هذه المتون التي يحفظها لا يسلم من الخطأ في بعض أبياتـها وقد ينسى الكلمة والجملة أمّا القرآن فإنه يحفظه حفظـًا متـقـنًا ، ولا غرابة في هذا فالشيخ يختمه في رمضان كل يوم في أغلب الأحوال قبل غروب الشمس كما أخـبرني بذلك شيخنا محمد الحسن .
إن موت العلماء ثُلمة في الإسلام لاتُسَدّ ، ودليل ذلك قول المصطفى صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين من حديث عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (( إِنَّ اللَّهَ لاَ يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزاعاً يَنتَزِعُهُ مِنَ الْعِبَادِ وَلَكِن يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ حَـتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِماً ، اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤُوساً جُهَّالاً فَسُئـِلُوا ، فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا )) .
قال الحافظ ابن حجر في (( فتح الباري )) (188/17) ط : دار طيبة :
( أخرج الدارمي من حديث أبي الدرداء قوله : (( رَفْعُ الْعِلْمِ ذَهَابُ الْعُلَمَاءِ )) وعن حذيفة : (( قَبْضُ الْعِلْمِ قَبْضُ الْعُلَمَاءِ )) وعند أحمد عن ابن مسعود قال : (( هَلْ تَدْرُونَ مَاذَهَابُ الْعِلْمِ ؟ ذَهَابُ الْعُلَمَاءِ )) وأفاد حديث أبي أمامة الذي أشرت إليه أولاً وقت تحديث النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الحديث . وفي حديث أبي أمامة من الفائدة الزائدة : أن بقاء الكتب بعد رفع العلم بموت العلماء لايغني من ليس بعالم شيئاً فإن في بقيته : فسأله أعرابـيّ فقال : يانبيّ الله ، كيف يرفع العلم منا وبين أظهرنا المصاحف ؟ وقد تعلمنا مافيها وعلمناها أبناءنا ونساءنا وخَدَمَنا ؟ فرفع إليه رأسه وهو مغضب فقال : (( وهذه اليهود والنصارى بين أظهرهم المصاحف لم يتعلقوا منها بحرف فيما جاءهم به أنبياؤهم )) .
لهذه الزيادة شواهد من حديث عوف بن مالك وابن عمرو ، وصفوان بن عسال ، وغيرهم وهي عند الترمذيّ والطبرانـيّ والدارميّ والبزار بألفاظ مختلفة ، وفي جميعها هذا المعنى . وقد فسر عمر قبض العلم بما وقع تفسيره به في حديث عبدالله بن عمرو ، وذلك فيما أخرجه أحمد من طريق يزيد بن الأصم عن أبي هريرة فذكر الحديث ، وفيه : (( وَيُرْفَعُ الْعِلْمُ )) فسمعه عمر فقال : (( أمَا أنَّه لَيْسَ يُنَزَعْ مِن صُدُورِ الْعُلَمَاءِ وَلَكِن بِذَهَابِ الْعُلَمَاءِ )) . وهذا يحتمل أن يكون عند عمر مرفوعاً ، فيكون شاهداً قوياً لحديث عبدالله بن عمرو ) .
وسبق أن علق الحافظ في الفتح (342/1) على قوله صلى الله عليه وسلم (( لَايَقْبِضُ الْعِلْمَ انتزَاعاً )) عند أول ذكر للحديث بقوله : ( قوله : ((لَايَقْبِضُ الْعِلْمَ انتزَاعاً )) أي محواً من الصدور ، وكان تحديث النبيّ صلى الله عليه وسلم بذلك في حجة الوداع : كما رواه أحمد والطبرانـيّ من حديث أبي أمامة قال : لما كان في حجة الودع قال النبيّ صلّـى الله عليه وسلّم : (( خُذُوا الْعِلْمَ قَبْلَ أَن يُقْبَضَ أَوْ يُرْفَع )) . فقال أعرابيّ : كيف يرفع ؟ فقال : (( أَلَا إِنَّ ذَهَابَ الْعِلْمِ ذَهَابُ حَمَلَتِه )) ثلاث مرات . قال ابن المنيـِّر : محو العلم من الصدور جائز في القدرة ، إلا أن هذا الحديث دل على عدم وقوعه ) .
إن موت العلماء ثُلْمَة في الإسلام لاتُسَدّ ، ولله در أستاذنا الشاعر : إبراهيم بن حسن الشعبيّ إذ يقول في رثاء فضيلة الشيخ : عبداللطيف بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله تعالى :

و نقص الأرض بالعلماء حق......و من أطرافها يأتى البلاء
إذا بكت العيون لكل خطب......على العلماء فليكن البكاء
وإن موت شيخنا ثُـلْمَة لاتسد في هذا العصر ، وكسر لا يجبر ؛ لأنه رحمه الله تعالى وأعلى منزلته كان ينفرد بمعرفة دقائق في سائر العلوم ، ولاسيما علوم الآلة ، ولا نجد في زماننا هذا نظيراً له في ذلك .
وهذه الدقائق الفريدة غابت - والله - بغيابه ، ورحلت برحيله ، ولا يمكن أن يشتمل عليها كتاب حتى نرجع إليه ، فكانت مغمروة في بحر علمه يستخرجها إذا سئل ، ويبديها عند المذاكرة والنقاش .
كالبحر يقذف للقريب جواهرا......جودا و يبعث للبعيد سحائبا
وما أجمل ماقاله تلميذه الشيخ أبو مية في رثائه له :

و إن ند و استعصى من العلم شارد......فما فى البرايا من نظير يزاحمه
و إن بحثوا فقه الهدى فهو مالك.......أزمة الاستنباط فيه و خاتمه

و إن خاض فى يوم من العلم لجة......فمستخرج در العلوم و ناظمه
ففى كل علم كان صدرا مبرزا......على رأسه تيجانه و عمائمه
فكان لنا الطرف المضمر عندما......تنوب من الهول العظيم عظائمه
وفي ختام هذه الإلماحة عن تواضع شيخنا ومنزلته في العلم ، أودّ أن أوجّه التعزية فيه إلى أبنائه وتلاميذه وكل عارفي فضله ، وأُقدم بعض الاقتراحات التي أرى أنها بعض حقه علينا :
أولاً - أن يُنشأ موقع باسمه ، يُودَع فيه ما تركه من مؤلفات وفـتاوى ومسائل علمية ، وماله من شعر متفرق ، وغير ذلك .
ثانياً - أن يُـجـمع في هذا الموقع كل ما سُجِّـل له من دروس ومحاضرات وأمسيات ، فما ألقاه بصوته أنفع لطلاب العلم من المكتوب .
ثالثاً - أن يُـتّصل ببعض أثرياء موريتانيا ممن للشيخ رحمه الله تعالى مكانة عندهم ، ليفرغوا بعض أبنائه وتلاميذه لمتابعة أعمال الموقع وأقترح أن يكون من بينهم ابنه الأكبر الشيخ محمد لمعرفـته بالبرمجة المتعلقة بالحاسب وشبكة المعلومات ، وكذلك الشيخ محمد بن أحمد جدُّو لأنه من تلاميذ الشيخ ، ومن أعرفهم به .
ولابد لتفريغ هذين وغيرهما للموقع من رواتب تغنيهم عن الانشغال بأعمال وظيفية .
رابعاً - أن يتولى شيخنا محمد الحسن الإشراف العام على الموقع .
خامساً - أن يُعْهَد بإنشاء الموقع إلى شركة ذات خبرة في تصميم المواقع وبرمجتها ، حتى يكون الموقع جذاباً حسن الإخراج ، فالدروشة والبساطة لا تصلح في زماننا هذا ، ولاسيما في الأمور العلمية والدعوية .
رحم الله شيخنا وأعلى درجته في المهديـين ، وجمعنا به في دار كرامته ومستقر رحمته ، وخلفه في أهله وتلاميذه ومحبيه خيراً ، ونفعنا بما خلفه من علم نافع .
والحمد لله أولاً وآخراً وظاهراً وباطناً .
تنبيه : المقال الشهري لشهر جمادى الثانية سيكون عن فضيلة شيخنا العلامـة : عبدالله بن عبدالرحمن الجبرين نسأل الله تعالى أن يقر أعيننا بشفائه قريباً بمنه وكرمه .
تنبيه آخر : رأيت - وللأسف الشديد - بعض المراثي النثرية والشعرية في شيخنا المرابط رحمه الله تعالى تشتمل على بدع وغلو وتسخّط ، وكأن القيامة قد قامت ، بل بعضهم يدعو إلى الحداد عليه عاماً كاملاً .

وفي هذا مخالفة لهدي سلف هذه الأمة ، وفيه إساءة إليه رحمه الله تعالى ، وهو ماكان يحذّر من مثل هذه الأعمال وقد ذكّرني هذا السلوك بمـا حصل في جنازة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى من أفعال بعض العوام الذين تزاحـموا على الماء الذي غُسل به ليتبركوا به وعلى جنازته ورميهم لها بأغطية الرؤوس من أجل أن تلتصق بالنعش ليتبركوا بـها كذلك وغير ذلك من الضلالات التي كان يحذّر منها في كتبه ودروسه .
ذكر ذلك تـقي الدين البزار في آخر (( كتاب الأعلام العليـّـة في مناقب شيخ الإسلام ابن تيـمـيّـة )) وذكره غيره ، وما أشبه الليلة بالبارحة .
فالوجب على طلاب العلم في كل مكان أن يبصروا الناس ويرشدوهم ويحذروهم من الوقوع في هذه المحاذير الشرعية .
أسأل الله تعالى ان يوفقنا جميعاً في كل ما نأتي ونذر .

ـــــــــــــــــــــــ
(1) العُفاة : جمع عاف ، وهم طلاب المعروف ، كما في (( مختار الصحاح )) : ص (433 ـ ع ف ا ) .
(2) أصل هذه الكلمة (( يدَّان )) فكُرِّرت الدال للتشديد ؛ لأن في البيت تدويراً ، والتدوير يكثر في بحر الخفيف وهو يحلو به ، ومعنى (( يدَّان )) يستقرض ، ومراد شيخنا حفظه الله تعالى : أن الشيخ ابن باز يستقرض ليعطي المحتاجين وهـكذا كان حاله عليه الرحمة والرضوان .
(3) على أوْفاز : على عجلة ، أو على سفر ، وقيل : معناه أن تلقاه مُعِدًّا ، واستوفز الرجل في قِعدته : انتصب فيها غير مطمئن ، والمتوفِّز : المتقلب على الفراش لايكاد ينام ، ووافزه عاجله .
راجع (( تاج العروس )) (168/8 ـ 169 ـ وفز ) .
(4) هـذه أسواق في الجاهلية كان الشعراء يتناشدون فيها الأشعار ، ويتبارون في ذلك .


>>>>> ردود الأعضـــــــــــــــــــاء على الموضوع <<<<<
==================================


جزاك الله خيرا وبارك فيك


__________________________________________________ __________


__________________________________________________ __________


__________________________________________________ __________


__________________________________________________ __________