بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله ،نحمده و نستعينه و نستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا و من سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، و من يضلل فلا هادي له ، و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، و أشهد أن محمدا عبده و رسوله .
أما بعد :
إن الله شرع لعباده دين الإسلام،فكلفهم بما لهم به مقدور،و أسقط عنهم كل معسور،فجاءت الشريعة متسمة بالسماحة مبنية على جلب ما كان للعباد من مصالح ، و درء المفاسد عنهم و القبائح ، سواء كان ذاك في دنياهم أو أخراهم .
و تحقيق هذه المقاصد لا يتأتى إلا بالوقوف على أسرار التشريع و حكمه ، إذ نصوصه معللة بالحكمة و صلاح المكلفين ، فكان لزاما على العلماء : وضع منهج يُقتفى ، و مسلك يُحتذى لمعرفة مقاصد الشارع ، و هو ما ختم به الإمام الشاطبي كتاب المقاصد ، و ذكر له أربع جهات ، و لم يكن ذاك حصرا منه في عدد معين ، بل هناك طرق أخرى تفهم تلويحا ، و إن لم ينص علها تصريحا .
فكان موضوع هذا البحث ، طرقَ إثبات المقاصد عند الإمام الشاطبي ، إلا أني لم أتقيد بما ذكره الإمام في كتابه ، و هذا لا يعني أني أضفت شيئا زائدا على ما قال، و لكن كان منهجي أن لا أبين المسلك حتى أعرف مصطلحاته و أبيِّن أمثلته ، لتتضح ماهيته أولا ، ثم بيانه كطريق ثانيا ، فقلما تجد للإمام في كتابه تعريفا ، و لا عجب في هذا ، فهو لم يضع كتابه لطلبة العلم و إنما للعلماء الراسخين الذين لهم علم مسبق بشتى علوم الشريعة ، قال في بداية كتابه الموافقات : " و لا يسمح للناظر في هذا الكتاب أن ينظر فيه نظر مفيد أو مستفيد ، حتى يكون ريان من علم الشريعة ، أصولها و فروعها ، منقولها و معقولها ، غير مخلد إلى التقليد و التعصيب للمذهب " .
المطلب الأول : مجرد الأمر و النهي الابتدائي التصريحي
الفرع الأول : تعريف مصطلحات هذا المسلك
الأمر لغة : معروف،نقيض النهي .. و هو كذاك : واحد الأمور يقال: أمر فلان مستقيم و أموره مستقيمة و الأمر الحادثة (1).
النهي لغة : خلاف الأمر ، نهاة ينهاه نهيا فانتهى و تناهى : كف (2) .
الابتدائي لغة : من بدأ بديت بالشيء : قدمته .... و بدأت الشيء : فعلته ابتداء ، و البدء و البديء : الأول .... و بادىء الرأي أوله و ابتداؤه (3).
التصريحي لغة :الصريح و الصَّراح و الصِّراح و الصُّراح و الكسر أفصح : الخالص من كل شيء ، ...و هو ضد الكناية ، و انصرح الحق : أي بان (4).
اصطلاحا :
معنى الأمر : هو اللفظ الدال على طلب الفعل على جهة الاستعلاء (5).
معنى النهي : هو القول الانشائي الدال على طلب كف عن فعل على جهة الاستعلاء (6) .
تعريف الأوامر و النواهي الصريحة :
الأمر الصريح : هو ما كان بصيغة " افعل " ، مثل قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته و لا تموتن إلا و أنتم مسلمون } [ آل عمران : 102 ] .
النهي الصريح :هو ما كان بصيغة " لا تفعل " ، مثل قوله تعالى : { و لا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون } [ الأنعام : 151] . و قوله تعالى { و لا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده } [ الأنعام : 152 ] .
و الأمر الصريح و النهي الصريح كلاهما يفيد بظاهره قصد الشارع إلى امتثال ما ورد فيهما من أوامر و نواهي .
تعريف الأوامر و النواهي الضمنية :
أ- ما كانت له صيغة :
فالأوامر الضمنية هي ما كانت بصيغة تتضمن أمرا ، و لم تكن بصيغة فعل الأمر ، و من ذلك :
- ما ورد بصيغة المضارع المقترن
عينى عينك بلام الأمر ، مثل قوله تعالى { فمن شهد منكم الشهر فليصمه } [ البقرة : 178 ]
- ما ورد منها مورد الإخبار عن تقرير الحكم ، مثل قوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون } [ البقرة :183 ] ، و قوله : { لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم و لكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة } [ المائدة : 89 ].
- ما جاء مجيء المدح : مثل قوله تعالى : { و الذين آمنوا بالله و رسله أولئك هم الصديقون } [ الحديد : 19 ] .
- ما جاء مجيء الذم له أو لفاعله : مثل قوله تعالى : { يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد و كلوا و اشربوا و لا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين } [ الأعراف :31]
- ترتيب الثواب و العقاب : مثل قوله تعالى { تلك حدود الله و من يطع الله و رسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها و ذلك الفوز العظيم } [ النساء : 13 ] و قوله : { و من يعص الله و رسوله و يتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها و له عذاب مهين } [ النساء :14 ]
- الإخبار بمحبة الله تعالى في الأوامر : مثل قوله تعالى : { الذين ينقفون في السراء و الضراء و الكاظمين الغيظ و العافين عن الناس و الله يحب المحسنين } [ آل عمران :134 ] و قوله { و إن تشكروا يرضه لكم } [ الزمر : 7 ]
- الكراهية و عدم الحب في النواهي : مثل قوله تعالى : { إن الله لا يحب المفسدين } [ القصص : 77} ، و قوله : { إن تكفروا فإن الله غني عنكم و لا يرضى لعباده الكفر } [ الزمر :7]
و النواهي الضمنية : هي كل ما يجري مجرى النهي و لم يكن بصيغة " لا تفعل " ، مثل :
- الأمر الدال على الكف : كقوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله و ذروا البيع ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون } [ الجمعة 9 ]
- مادة النهي : كقوله تعالى : {و ينهى عن الفحشاء و المنكر و البغي يعظكم لعلكم تذكرون } [ النحل :90]
- و كما في الجمل الخبرية المستعملة في النهي : كقوله تعالى : { حرمت عليكم الميتة و الدم و لحم الخنزير و ما أهل لغير الله به ..} [ المائدة :3] و قوله : { الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان و لا يحل لكم أن تاخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله } [ البقرة : 229] .
ب- لازم الأمر و النهي :
و هو ما يتوقف عليه كل منهما أي : هل الأمر بالشيء نهي عن ضده ، و وجوب ما لا يتم الواجب المأمور به بتحصيله مع كونه في قدرة المكلف ؟ و النهي عن الشيء هل يلزم منه الأمر بضده و النهي عن الذرائع الموصلة إلى ذلك المنهي عنه ؟ و هذا النوع فيه خلاف مشهور بين الأصوليين ليس هذا موضع تفصيله (8) .
الفرع الثاني : بيانه كطريق من طرق الكشف عن المقاصد
يدل الأمر على القصد إلى حصول المأمور به ، و يدل النهي على القصد إلى عدم حصول المنهي عنه . و قد قيد الإمام الشاطبي الأمر و النهي بالابتدائي و التصريحي :
القيد الأول : الابتدائي : قيد خرج به الأمر او النهي الي يستفاد منه قصد الشارع تبعا لا أصالة فيكون قد أتى تعضيدا و تأكيدا للأمر الأول . قال الإمام الشاطبي :" و إنما قيّد بالإبتداء تحرزا من الأمر أو النهي الذي قصد به غيره" (9) .
و ساق مثالا في قوله تعالى :" فاسعوا إلى ذكر الله و ذروا البيع " الجمعة 09
الأمر الأول :" فاسعوا إلى ذكر الله " أمر ابتدائي مقصود بالقصد الأول ، فهو دال على قصد الشارع إلى حمل الناس على تحقيق السعي ( المأمور به ) .
الأمر الثاني: "و ذروا البيع " ليس أمرا إبتدائيا و إنما هو تبعي جاء ليعضد القصد الأول وهو السعي ،و بما أنه ليس ابتدائيا فلا يصح الاستدلال به على قصد منع البيع .
قال الشاطبي بعد ذكر الآية : " فإن النهي عن البيع ليس نهيا مبتدأ ، بل هو تأكيد للأمر بالسعي ، فهو من النهي المقصود بالقصد الثاني ، فالبيع ليس منهيا عنه بالقصد الأول كما نهي عن الربا و الزنى مثلا
نسائيه ، بل لأجل تعطيل السعي عند الاشتغال به " (10) .
و قال في موضع آخر:" و كذلك قوله تعالى :{ فاسعوا إلى ذكر الله } مقصودة الحفظ على إقامة الجمعة و عدم التفريط فيها ، لا الأمر بالسعي إليها فقط ، و قوله { و ذروا البيع} جار مجرى التوكيد لذلك بالنهي عن ملابسة الشاغل عن السعي لا أن المقصود النهي عن البيع مطلقا في ذلك الوقت " (11) .
القيد الثاني : التصريحي : قيد خرج به الأمر و النهي الضمني الذي يكون مقصودا بالقصد الثاني على سبيل تأكيد و تعضيد القصد الأول .
"والأوامر و النواهي الضمنية خفية في الدلالة على قصد الشارع ،إذ تفيده مجودة و إنما بما يحف بها من قرائن " (12) .
و لم يذكر فيه مثالا سوى ما نهي عن ضد المأمور به مثل قوله تعالى : { ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن} [البقرة 28 ]هو في معنى النهي يقتضي وجوب الإظهار.و الأمر بالتربص في العدة يقتضي حرمة التزوج (13)
و أيضا : الأمر بالحج مع ما يستلزمه ؛ فالأمر بالحج صريح و أخذ مستلزماته و القيام بها أمر ضمني (14) .
قال الإمام الشاطبي : " و إنما قُيّد بالتصريحي تحرزا من الأمر أو النهي الضمني الذي ليس بمصرح به ، الكنهي عن أضداد المأمور به الذي تضمنه النهي عن الشيء ، فإن النهي و الأمر هاهنا إن قيل بهما فهما بالقصد الثاني ، لا بالقصد الأول ، إذ مجراهما عند القائل بهما مجرى التأكيد للمر أو النهي المصرح به " (15) .
و ذكر بعض الأمثلة لمقاصد الشارع المعتبرة من مجرد الأمر و النهي الابتدائي التصريحي في باب الأوامر و النواهي منها :
" المفهوم من قوله : { أقيموا الصلاة } [ البقرة : 43] المحافظة عليها و الإدامة لها ، و من قوله : " أكلفوا من العمل ما لكم به طاقة " الرفق بالمكلف خوف العنت أو الانقطاع ، لا أن المقصود نفس التقليل من العبادة ، أو ترك الدوام على التوجه إلى الله ...
و كذلك إذا قال : " لا تصوموا يوم النحر " المفهوم منه مثلا قصد الشارع إلى ترك إيقاع الصوم فيه خصوصا .
و من قوله : " لا تواصلوا " أو قوله " لا تصوموا الدهر " الرفق بالمكلف أن لا يدخل فيما لا يحصيه و لا يدوم عليه ، و لذلك كان عليه الصلاة و السلام يواصل و يسرد الصوم ؛ كان يصوم حتى يقال لا يفطر ، و يفطر حتى يقال : لا يصوم و واصل عليه الصلاة و السلام وواصل السلف الصالح مع علمهم بالنهي ، تحققا بأن مغزى النهي الرفق و الرحمة ، لأن مقصود النهي عدم إيقاعه و لا تقليله .... " (16) .