يقدم هذا البحث العلمي رؤية علمية جديدة لمعنى قوله تعالى: (وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ) [الذاريات: 7]. فقد وجدتُ بأن هذه الآية تعبّر تعبيراً دقيقاً عن حقيقة هذا الاكتشاف الكوني الجديد، بل إن الكلمة القرآنية تتفوق على المصطلح العلمي! ....
مقدمة
الحمد لله الذي أودع في كتابه المجيد عجائب لا تنقضي، وجعل فيه من البراهين ما يثبت أنه منزل من لدن حكيم عليم، وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
لقد نزل القرآن في عصر انتشرت فيه الخرافات، وسيطرت فيه الأساطير على عقول البشر، فجاء الإسلام لينير الطريق وليصحح المعتقدات، وليقدم الحقائق العلمية والتي سيكتشفها الإنسان على مر العصور، ومن هذه الحقائق ما سمّاه العلماء بالنسيج الكوني.
هذه الحقيقة العلمية لم يتم إثباتها بالصور إلا منذ أشهر قليلة، وذلك عندما قام فريق من العلماء برسم صورة للكون ثلاثية الأبعاد باستخدام السوبر كمبيوتر، وكانت المفاجأة أن المجرات لا تتوزع عشوائياً في الكون، بل تصطفّ على خيوط طويلة، وترتبط هذه الخيوط بعقد، وتشكل نسيجاً كونياً رائعاً!
وبعد دراسة طويلة لهذا النسيج والتعرف على مئات الأبحاث الصادرة حديثاً حوله، فقد تأكدتُ أن هذا النسيج هو ما تحدثت عنه الآية الكريمة: (وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ) [الذاريات: 7]. وبخاصة بعدما اطلعتُ على أقوال المفسرين وعلماء اللغة فوجدتهم يؤكدون على أن كلمة (الْحُبُكِ) تشير إلى النسيج المحكم.
سوف نرى من خلال هذا البحث العلمي أن القرآن يتوافق مع الحقائق العلمية الثابتة واليقينية، وأن هذا التوافق يشهد على أن القرآن كتاب الله تعالى، وأنه معجز من الناحية العلمية والكونية. وفي ذلك ردّ على كل من يدعي أن القرآن من تأليف محمد صلى الله عليه وسلم.
وتجدر الإشارة إلى أننا لم نخرج في رؤيتنا العلمية أبداً عن معنى كلمة (الحُبُك) في اللغة العربية، أو في التفاسير المعتمدة. أي أننا لم نحمّل النص القرآني معنى لا يحتمله، بل سوف نلاحظ أن ما فهمه المفسرون رحمهم الله تعالى هو ما تكشفه الأبحاث الحديثة!
وسوف نعتمد في مراجع البحث على أهم علماء الغرب الذين اكتشفوا هذا النسيج وألّفوا مئات الأبحاث حوله، وعلى الأبحاث المنشورة حديثاً، والموثقة من قبل أهم المواقع العالمية للفضاء على شبكة الإنترنت.
في رحاب التفسير
لنبدأ هذا البحث بسؤال: كيف فهم الصحابة والتابعون رضوان الله عليهم هذه الآية زمن نزولها؟ وكيف نقل لنا المفسرون رحمهم الله تعالى أقول السلف الصالح؟
هذا هو الإمام القرطبي يقول في تفسيره لكلمة (الحُبُك): «قال ابن عباس وقتادة ومجاهد: الخَلْق الحسن المستوي، وقاله عكرمة قال: ألم تر إلى النساج إذا نسج الثوب فأجاد نسجه ، يقال منه حبك الثوب يحبِكه حبكاً، أي أجاد نسجه. قال ابن الأعرابي كل شيء أحكمته وأحسنت عمله فقد احتبكته»[2].
يقول الإمام ابن كثير في تفسيره لهذه الآية: «وقال الضحاك والمنهال بن عمرو وغيرهما: مثل تجعد الماء والرمل والزرع، إذا ضَربَتْه الريح فينسُج بعضُه بعضاً طرائق طرائقَ، فذلك الحُبُك». ثم يقول: «وقال الحسن بن أبي الحسن البصري: (ذَاتِ الْحُبُكِ) حُبكت بالنجوم»[3].
أما الإمام الزمخشري فقد تناول هذه الآية وقال في تفسيرها: «(الحُبُك) الطرائق مثل حُبُك الرمل والماء إذا ضربته الريح، وكذلك حُبُك الشَعر: آثار تثنيه وتكسّره. وإذا أجاد الحائك الحياكة قالوا: ما أحسن حبكه»[4]. ونستطيع أن نتلمس من هذه التفاسير إشارة إلى النسيج والحَبْك والإحكام. وأن خيوط هذا النسيج هي النجوم، من خلال قول الحسن: «حُبكت بالنجوم».
والآن وبعدما رأينا جانباً من فهم المفسرين والعلماء لهذه الآية الكريمة، نطرح السؤال: ما هي نظرة علماء اللغة العربية لكلمة (الحُبُك)، وكيف فهموا هذه الكلمة؟
في رحاب اللغة
يقول ابن منظور في معجمه لسان العرب حول معنى قوله تعالى (وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ): «قال أبو إسحاق: وأهل اللغة يقولون: ذات الطرائق الحسنة»[5]. أما معجم القاموس المحيط فيعطينا معنى هذه الكلمة كما يلي: «الحَبْكُ هو الشدّ والإحكام، وتحسين أثر الصنعة في الثوب»[6]. ولو بحثنا في المعجم الوسيط والذي وضعه مجمع اللغة العربية حديثاً نجد معنى كلمة (حَبَكَ) هو: «حَبَكَ الشيء حَبكاً أحكَمه، ويقال حَبَك الثوبَ: أجادَ نسجه، وحبَك الحبل: شدّ فتله، وحبك العقدة: قوّى عَقدها ووثقها»[7].
وهذا يدل على أن علماء اللغة يربطون هذه الكلمة دائماً بنسج الثوب وإتقانه وإحكامه، وأنهم يتحدثون عن خيوط تُحبك وتُشد وترتبط بعُقد محكمة. والسؤال: هل يمكن أن نجد في اكتشافات العلماء ما يشير إلى وجود نسيج حقيقي في السماء؟ لنتأمل الآن أحدث اكتشاف كوني حول بنية الكون وشكله، ونتأمل التطابق المذهل بين ما جاء به القرآن قبل أربعة عشر قرناً، وبين ما يراه العلماء اليوم رؤية يقينية.
لقد وجد العلماء أن المجرات تنتشر بكميات ضخمة، فقدروا عددها بمئات البلايين، وقدروا عدد النجوم في كل مجرة بمئات البلايين أيضاً. وبدأوا بطرح العديد من الأسئلة: ما هو شكل هذا الكون إذا نظرنا إليه من الخارج؟ وكيف تتوزع المجرات والغاز والغبار الكوني في الفراغ بين النجوم؟ وهل هنالك من نظام يحكم هذا التوزع؟
الإجابة عن هذه الأسئلة تطلبت تصميم كمبيوتر عملاق يستطيع رسم صورة مصغرة للكون. حيث قام العلماء بإدخال جميع البيانات الضرورية في هذا الكمبيوتر الضخم لإتمام المهمة، وكان هدف هذه العملية هو معرفة التوزع الدقيق للمجرات في الكون.
مجرة رائعة تسبح في ظلام الكون، وهذه المجرة يوجد مثلها في الكون أكثر من مئة بليون مجرة، فسبحان الخالق العظيم!
ما هو السوبر كمبيوتر؟
لا بدّ أولاً من التعرف إلى هذا الجهاز الجديد وبعض الميزات التي يتمتع بها، لندرك صعوبة هذا الاكتشاف وضخامته. فقد طورت الشركات حديثاً في العام 2017 الكمبيوتر العملاق supercomputer وذلك لاستخدامه في عمليات المحاكاة، وقد بلغت سرعة هذا الجهاز أكثر من 12 تريليون عملية حسابية في الثانية الواحدة، ويزن هذا الجهاز أكثر من مئة ألف كيلو غرام، ويستهلك من الطاقة الكهربائية 1.2 ميغا واط، ويبلغ حجمة حجم ملعبي تنس!! وكان حجم ذاكرة هذا الجهاز 6 مليون مليون بايت.
ويقول مدير الشركة IBM الصانعة للجهاز: إن العمليات التي ينجزها هذا الجهاز في ثانية واحدة، يحتاج الإنسان لإنجازها بواسطة الآلة الحاسبة العادية لمدة 10 مليون سنة. فتأمل أخي القارئ ضخامة هذا الجهاز وسرعته الفائقة وحجم التقنيات الموضوعة فيه، ولولا جهاز كهذا لا يمكن أبداً اكتشاف شكل الكون أو رسم صورة مصغرة عنه [15] .
جزء من الجهاز العملاق المسمى بالسوبر كمبيوتر
أضخم عملية حاسوبية على الإطلاق!
لقد قام بعض العلماء من بريطانيا وألمانيا وكندا والولايات المتحدة الأمريكية منذ فترة قريبة بأضخم عملية حاسوبية لرسم صورة مصغرة للكون، وتم إدخال عشرة آلاف مليون معلومة في السوبر كمبيوتر، حول عدد ضخم من المجرات يزيد على 20 مليون مجرة! وعلى الرغم من السرعة الفائقة لهذا الجهاز إلا أنه بقي يعمل في معالجة هذه البيانات مدة 28 يوماً حتى تمكن من رسم صورة مصغرة للكون!!
لقد تم إدخال معلومات عن توسع الكون، وعن سلوك النجوم والتجمعات المجرية، وعن المادة المظلمة في الكون، وكذلك تم إدخال معلومات عن الغاز والغبار الكوني، بهدف تقليد الكون في توسعه، وتحديد الطرق التي تسلكها المجرات والنجوم.
وقد قال البروفسور Carlos Frenk من جامعة درهام ببريطانيا ومدير هذا البرنامج [17]:
"هذه المجموعات من آلاف المجرات شديدة اللمعان قد رُصّت بإحكام شديد".
إذا نظرنا إلى السماء فسوف نرى عدداً ضخماً من المجرات، هذه المجرات لا تنتشر عشوائياً، إنما هنالك قوى شديدة تربطها بإحكام، إنها قدرة الله تعالى الذي يمسك هذه المجرات ويمسك السماء أيضاً!
من أين جاءت هذه التسمية؟
إن مصطلح «النسيج الكوني» هو مصطلح حديث جداً، وقد أطلقه العلماء للتعبير عن بنية الكون لأنهم رأوا المجرات تصطف على خيوط دقيقة. فلو تأملنا أي خيط كوني سوف نجده خيطاً دقيقاً جداً بالمقاييس الكونية، فإذا علمنا بأن النجم الواحد يمتد في الفضاء لمسافة تساوي عدة ثوان ضوئية، فإن الخيط الكوني يمتد لعدة بلايين من السنوات الضوئية!
ولو قمنا مثلاً بتصغير خيط كوني حتى يصبح قطره ميليمتراً واحداً فإن طول هذا الخيط سيبلغ عدة مئات من الأمتار!! فتأمل دقة هذا الخيط الكوني، فهو رفيع جداً وطويل جداً، وعلى الرغم من ذلك نجده محكماً ومشدوداً بقوى كونية عظيمة. والسؤال: ألا يدل هذا على عظمة هذه الخيوط ودقة صنعها وإتقانها؟ ومن هنا ربما ندرك لماذا أقسم الله بها في كتابه المجيد.
صورة النسيج الكوني كما رآها العلماء، كل خيط من خيوط هذا النسيج يحوي آلاف المجرات، ويمتد لبلايين السنوات الضوئية، فسبحان الذي خلق هذا النسيج وأقسم به!
العلماء يستخدمون تعابير القرآن!
إن العلماء اليوم لا يشكّون أبداً في وجود هذا النسيج، بل إنهم بدأوا يبحثون عن الكيفية التي تمت بواسطتها نسج هذه الخيوط الكونية العظمى. ومن أغرب ما صادفته في هذه الدراسة أنني وجدتُ بأن علماء الفلك اليوم يستخدمون التعبير القرآني ذاته في أبحاثهم! فقد صدر مؤخراً بحث لعدد من كبار الباحثين الغربيين يتساءلون فيه عن الكيفية التي تم بواسطتها حبك الخيوط في النسيج الكوني!!! وقد وجدتهم يستعملون كلمة weave وهي تعني (حبك) [18] ، والسؤال: أليس هذا منتهى الوضوح والدلالة لآيات كتاب الله تعالى؟؟
والسؤال: ماذا يعني أن نجد علماء الفلك في القرن الحادي والعشرين يستخدمون الكلمة القرآنية ذاتها؟ إنه يعني أن هؤلاء العلماء مهما بحثوا ومهما اكتشفوا من حقائق علمية فلا بدّ في النهاية أن يعودوا إلى كتاب الحقائق – القرآن، لأن الله تعالى الذي خلق الكون هو الذي أنزل القرآن وحدثنا فيه عن هذه المخلوقات.
العلماء يؤكدون رؤيتهم لخيوط هذا النسيج
يرفض بعض القراء فكرة الإعجاز العلمي بحجّة أن العلم هو عبارة عن فرضيات تتغير مع تطور المعرفة البشرية، أما القرآن فهو الحقيقة الثابتة، ولذلك هم يعترضون على تفسير القرآن المطلق والثابت بنظريات متغيرة وقد تكون خاطئة. والسؤال الذي نود إثارته: هل يمكن أن يكتشف العلماء في المستقبل شيئاً يخالف ما كشفوه اليوم؟
يمكن القول إن هنالك حقائق علمية يراها الإنسان ويلمسها مثل حقيقة وجود المجرات وحقيقة كروية الأرض وحقيقة وجود الشمس والقمر، وهذه حقائق يراها كل إنسان. وهنالك نظريات مثل نهاية الكون وعمر الكون وكيفية نشوء الكون لم يستطع العلماء التأكد منها.
ومما لا شك فيه أن المجرات تتوضع في هذا الكون بنظام محكم وبناء نسيجي وهذا ما يقره جميع العلماء ولا ينكره أحد، وقد تكشف الأبحاث العلمية القادمة تفاصيل جديدة عن هذا النسيج، ولكن لا يمكن أن نكتشف مثلاً أن الكون عشوائي أو غير منظم، لأن ذلك سيؤدي إلى انهيار الكون.
بما أن هذه الحقيقة العلمية تطابقت مع النص القرآني فلا يمكن أبداً أن يكتشف العلم مستقبلاً أشياء تناقض هذا النص الكريم، ولكن العلم قد يكشف أشياء جديدة في هذا النسيج كأن يكتشفوا صورة أفضل عنه أو يستطيعون أن يروه بتفاصيل أكثر دقة.
إذن كما نرى ونلمس أن الأرض كروية، كذلك العلماء يرون بأعينهم خيوطاً من المجرات تتشابك وتترابط بنظام محكم، ولا يمكن أن يكون هذا المشهد وهماً.
إن العلماء اليوم يرون طرقاً وجسوراً كونية تربط هذه الخيوط وتشدَها بإحكام، ومن هؤلاء العلماء الدكتور «بول ميلر» الذي يؤكد أن هنالك طرقاً للنجوم تسير عليها وتتدفق وتلتقي وتجتمع لتشكل المجرات، كما أنه يتحدث عن خيوط filaments وعن عقد nodes وعن نسيج web ، أليست كلمة (الحُبُك) تتضمن هذه المعاني جميعاً؟!
يقول العالم بول ميلر أحد كبار علماء الفلك مؤكداً رؤيته لهذا النسيج [15]:
يتبع ....