عنوان الموضوع : قصه جميله ومؤثره
مقدم من طرف منتديات نساء الجزائر
قصه جميله ومؤثره
صاح التلميذُ في حُرقة : " قالت بأنها سوف ترقص معي إن أهديتها وردةً حمراء. ولكن في حديقتي كلّها لا يوجد وردٌ أحمر".
ومن عشّها الصغير في سنديانة الحديقة، سمعت العندليبُ شكوى الشاب، فعجبت لأمره وأخذت تراقبه من بين الأوراق.
حزُنَ الشاب واغرورقت عيناهُ بالدموع وهو يُكرّر صيحته: "لا ورود حمراء في حديقتي كلها". ثم أخذ يتمتم في حُزنٍ شديد:
"عجباً، لِمَ تُبنى السعادةُ على أمانيّ واهنة لا قيمة لها؟. لقد التهمتُ كلّ ما خطّهُ الحكماءُ في الكتب، وجمعتُ كلّ أسرار الفلسفة في عقلي، فلماذا تتسببُ وردةٌ حمراء في بؤسِ حياتي؟".
فقالت العندليبُ في حماس: " أخيراً وجدتُ العاشق الأصدق. لقد تغنّيتُ به ليلةً بعد ليلة، وقصصتُ على النجوم حكايته، رغم أني لم أعرفه، ولكنني الآن أراه أمامي بشعرهِ الداكن كلون زهرةِ الياقوت، وشفتيه الحمراوين كالوردة التي يبحث عنها. ولكن العذاب الذي يُكابده جعل وجهه يزداد شحوباً كالعاج الأصفر، حتى طغى حزنُهُ الشديد على سيمائه".
وهناك في البستان لا يزالُ التلميذ يتمتم ويقول: " يُقيم الأمير حفلةً راقصة مساء الغد، وستكون محبوبتي من ضمن الحضور. إن استطعتُ أن أجلب لها وردةً حمراء، سنرقصُ معاً حتى بزوغِ الفجر. إن استطعتُ أن أجلب لها وردةً حمراء، سأحتويها بين ذراعيّ، وتسندُ هي رأسها على كتفي في حنان، وتُعانق يدي يدها في شوقٍ كبير. ولكن لا ورود حمراء في حديقتي. لذا، سأبقى وحيداً، وتمضي هي تاركةً إياي وأشواقي غير مباليةٍ بي إلى أن يتحطم قلبي".
فأخذت العندليب تحدّث نفسها قائلة: " إنه بالتأكيد العاشقُ الأصدق؛ فما أتغنى به أنا يتجسّد في معاناته، وما أجده مُبهجاً، يجدهُ ألماً قاسياً. إن هذا الحب حتماً شيءٌ رائع. أعزّ وأغلى من جواهر الدنيا، فلا تستطيع اللآلئ شراءه، ولا هو مما يُشترى في الأسواق، ولا هو مما يكتنزه التجار في خزائنهم، ولا يُمكن أن يُقاس أو يوزن بموازين الذهب".
وتابع التلميذُ مناجاته: "سيعلو صوتُ القيثارة والكمان، وترقصُ حبيبتي على أنغامهما بخفّةٍ ورشاقةٍ دون أن تلامس قدماها الأرض، ويحيطُ بها المعجبون من كل جانب. ولكنها لن ترقص معي لأنني لم أحضر الوردة الحمراء. لن ترقص معي".
وقذف بجسده فوق العشب، ودفن وجهه بين كفيه ثم أخذ يبكي.
وتساءلت سحليةٌ خضراء كانت تمر بجانب الشاب: " لِمَ بكاؤه؟"
وأضافت فراشةٌ رفرفت في الهواء من بين خيوط الشمس الذهبية:" نعم، ما الذي يُبكيه؟"
وهمست زهرةٌ من زهور الربيع لجارتها: " ما يُبكيه؟"
أجابتهم العندليب وفي صوتها نبرةُ حزنٍ واضحة: " إنه يبكي من أجل وردةٍ حمراء"
فصاحوا جميعا في صوتٍ واحد: " من أجل وردةٍ حمراء!! يا لهُ من أمرٍ مضحك"
وكانت السحلية الخضراء ممن لا يؤمنون بأقدار الحياة ونواميسها فيسخرون منها، فأطلقت ضحكة استهزاءٍ عالية.
أما العندليب فقد أدركت معاناة الشاب، فبقيت هادئة في السنديانة تفكر في لغز الحب. وفجأةً، نشرت جناحيها السمراوين وحلّقت كالطيف في الفضاء عابرةً البستان.
وفي وسط الروض بين الأعشاب، كانت شجرةُ وردٍ جميلة طارت إليها العندليب فور رؤيتها، واستقرّت على غصنها المزهر وقالت: " امنحيني وردةً حمراء، وسوف أغني لكِ أجمل أغنياتي".
ولكن الشجرة هزّت رأسها قائلةً: "ورودي بيضاء كزبدِ البحر، وأكثر بياضاً من الثلج فوق جبال الجليد. اذهبي إلى أختي التي تنبُت حول الساعة الشمسية القديمة، فقد تجدين مطلبك عندها".
وحلّقت العندليب من فورها إلى الشجرة قرب الساعة الشمسية القديمة، وقالت لها: "امنحيني وردةً حمراء، وسوف أغني لكِ أجمل أغنياتي".
ولكن الشجرة هزّت رأسها قائلة: " ورودي صفراء كشعر حوريةٍ تتربع عرش الكهرمان، وأكثر اصفراراً من زهرةِ النرجس قبل أن تقتلعها المناجل. اذهبي إلى أختي التي تنبُت تحت نافذة حجرة التلميذ، فقد تجدين مطلبك عندها".
حلّقت العندليب فوراً إلى شجرة الورد التي تنبُت تحت نافذة حجرة التلميذ، وقالت لها: " امنحيني وردةً حمراء، وسوف أغني لكِ أجمل أغنياتي".
ولكن الشجرة هزّت رأسها قائلة: "ورودي حمراء كأقدام اليمام، وأكثر احمراراً من شعاب المرجان التي تتماوج وتتماوج عند كهوف المحيط. ولكن الشتاء قد جمّد عروقي، والصقيعُ قطّع براعمي، والعاصفة حطّمت أغصاني، وقد لا أُنبتُ أية ورودٍ هذا العام".
فقالت العندليب متوسلة: " كل ما أريده هو وردة واحدة فقط. أما من طريقةٍ للحصول عليها؟"
فأجابت الشجرة: " هناك وسيلةٌ واحدة، ولكنها فظيعةٌ جدا حتى أنني لا أجرؤ على قولها".
فقالت العندليب في لهفة: " أرجوكِ أخبريني. ولن أخاف سماعها".
أطرقت الشجرة ثم قالت: "إن كنتِ تريدين وردةً حمراء، فيجب عليكِ أن تخلقيها بألحانك تحت ضوء القمر، وتلوّنيها بدماء قلبك. عليكِ أن تغني لي بينما تدفعين بصدرك نحو شوكتي. تغنين لي طوال الليل إلى أن تنفذ الشوكة إلى قلبك، وينتقل دمك عبر الشوكة إلى عروقي".
فصاحت العندليب: "الموت ثمنٌ باهظٌ لشراء وردةٍ حمراء، والحياةُ عزيزةٌ على كل نفس. إنه لمن البهجة والسعادة أن نجلس في الغابة الخضراء، ونتطلع إلى بهاء الشمس في مركبها الذهبي، والقمر في مركبه اللؤلؤي. كم هي زكيةٌ رائحة النباتات البريّة، وكم جميلةٌ هي أشجار الزهر الأزرق في الوديان. ولكن يبقى الحب أغلى من الحياة، فماذا قد يساوي قلبُ طيرٍ مقارنةً بقلب إنسان؟".
ثم نشرت العندليب جناحيها السمراوين وحلّقت في الفضاء كطيفٍ عابر، ماضية نحو البستان.
وهناك فوق العشب ما يزال التلميذ مستلقياً كما تركته، ودموع عينه لم تجف في مقلتيه الجميلتين بعد.
وصاحت العندليب : "كن سعيداً، ستحصل على الوردةِ الحمراء. سوف أخلقها بألحاني تحت ضوء القمر، وألونها بدمي. وكل ما أطلبه منك بالمقابل هو أن تبقى العاشق الأصدق. فالحب أكثر حكمةً من بحور الفلسفة، رغم حكمتها، وأقوى من القوة نفسها، رغم شدتها. هذا الحب جناحاهُ وجسده ملوّنة بلون اللهب. شفتاه كالعسل في حلاوته، وأنفاسه كالبخور في عطره".
نظر الشاب إلى الأعلى مصغياً إلى حديث العندليب، ولكنه لم يفهم ما قالته، فهو لا يفهم إلا ما يُدوّن في الكتب.
أما السنديانة فقد استوعبت كلام العندليب، وحزنت أشدّ الحزن فرقّ قلبها وخشعت جوارحها، لأنها كانت شديدة التعلّق بالعندليب التي اتخذت لها عشاً بين غصونها.
وهمست قائلة: "هلاّ غنيتِ لي لآخر مرة. سوف أفتقدكِ كثيراً عندما ترحلين".
وأخذت العندليب تغني للسنديانة، فكان صوتها كخريرِ ماءٍ ينسكب من وعاءٍ فضي.
وعندما انتهت العندليب من الغناء، نهض الشاب وأخرج من جيبه دفتراً صغيرا وقلم رصاص، ثم أخذ يمشي في البستان ويكلم نفسه: "إن لهذه العندليب أسلوبا رائعا في الغناء لا يمكن إنكاره، إضافةً إلى صوتها الشجيّ. ولكنني أشك في أن لديها إحساس مثلنا. أعتقد أنها كباقي أرباب الفن، يملكون الأسلوب المتميز، ويفتقرون إلى الصدق في المشاعر؛ فهي لن تضحي بنفسها من أجل الآخرين. لا تفكّر إلا في الغناء والألحان، والجميع يعلم أن الفنانين أنانيون. ومع هذا، يجب أن أعترف بأن صوتها يحمل من الجمال الشيء الكثير. وإنه لمن دواعي الأسف أن لا يكون لهذا الصوت أي معنى أو فائدة تُرجى".
ثم عاد إلى غرفته واستلقى على سريره الصغير، وبدأ يفكر في حبيبته، ثم غاب في سباتٍ عميق. وعندما أضاء القمرُ السماء، طارت العندليب إلى شجرة الورد، وألصقت صدرها بشوكتها. أخذت العندليب تغني وتشدو طوال الليل، والشوكة تنفذ إلى صدرها، بينما استرخى القمر الهادئ في إصغاءٍ شديد لغناء العندليب. واستمرّت العندليب في الغناء بصوتها الشجي الذي خالطه مزيجٌ من الفرح والألم، والشوكةُ تتابع طريقها نحو قلبها حتى بدأت تنزف بشدة.
كان أول ما غنته العندليب أغنية عن ميلاد الحب في قلب صبي وفتاة. فبدأت الشجرة تُنبت وردةً رائعة الجمال، بتلة بعد بتلة، مع كل أغنيةٍ تتبع أغنية. كانت الوردة شاحبةً في بادئ الأمر، كالضباب الذي يعلو النهر، أو كلون السماء في أول الصبح، وكانت فضيةً كأجنحة الفجر. كانت كظلِ وردةٍ في مرآةٍ فضية، أو كظلِ وردةٍ في حوض ماء.
وفجأة، صاحت الشجرة في العندليب آمرةً إياها أن تدفع بصدرها بقوةٍ أكبر: " ادفعي بقوة أيتها العندليب الصغيرة، أو يطلع علينا الصباح قبل أن تكتمل الوردة ". فقامت العندليب بدفع صدرها نحو الشوكة أكثر فأكثر، وارتفع صوتها بالغناء أعلى وأعلى، منشدةً أغنيةً عن مولد الهيام والصبابة في روحَي رجلٍ وعذراء.
وعندها ازداد تورّد الأوراق في الوردة، كتورّد وجه عريسٍ حين يقبّل شفتي عروسه.
ولكن الشوكة لم تصل إلى قلب العندليب بعد، فبقي قلبُ الوردةِ أبيض. شيءٌ واحدٌ يستطيع أن يُغرق قلب الوردة بالحمرة. هو دم قلبِ العندليب.
وصاحت الشجرة ثانيةً: " ادفعي بقوة أيتها العندليب الصغيرة، أو يطلع علينا الصباح قبل أن تكتمل الوردة ". لذا، دفعت العندليب صدرها نحو الشوكة بقوةٍ أكبر، حتى لامست قلبها، فأطلقت صيحة ألمٍ رهيبة لم يعهدها صوتها من قبل.
كان الألم قاسياً أيما قسوة، فازداد صوت العندليب اهتياجاً في أغنيةٍ عن الحب الخالد الذي لا يقهره الموت، بل يوصله إلى درجة الكمال، فلا يتلاشى عند حافة القبر.
وازداد احمرار الوردة الرائعة، فاحمرّ ما بين أوراقها، واحمرّ قلبها حتى أصبح كالياقوتة. أما صوت العندليب فازداد خفوتاً ووهناً، وبدأت العندليب تضرب بجناحيها. بعدها غطّت عينيها سحابةٌ رمادية، وأخذت أغنيتها تخفت أكثر فأكثر حتى أحسّت بغصّةٍ في حلقها.
وبعد قليل انفجرت العندليب بالغناء لآخر مرة، فاستمع القمرُ إلى أغنيتها وبقيَ في مكانه في السماء حتى نسيَ موعد الفجر القريب.
واستمعت الوردةُ الحمراء إلى أغنيتها، فارتعشت في نشوةٍ عارمة، ثم فتحت أوراقها لنسمات الصبح الباردة.
وحمل الصدى أغنية العندليب إلى كهوفه الوردية عند التلال، فأيقظ الرعاة من أحلامهم.
وشرعت الأغنية تعوم على امتداد النهر حتى أوصلها إلى البحر العظيم.
صرخت الشجرة في حماس: " انظري، انظري، لقد اكتملت الوردة".
ولكن العندليب لم تحرّك ساكناً ، ولم تجب. لقد فارقت الحياة والشوكة مغروسةٌ في قلبها.
عند الظهر، نهض التلميذ من نومه وفتح نافذة غرفته، فصاح في دهشة: " يا إلهي، يا لهذا الحظ الرائع!! ها هي وردةٌ حمراء. يا للروعة، لم أرَ مثلها في حياتي كلها. إنها جميلة جدا حتى أنني أكاد أجزم بأن لها اسماً علمياً طويلا". ثم انحنى نحو الشجرة وقطف الوردة.
ارتدى قبعته وخرج مسرعاً يقصد منزل الأستاذ، يملؤه الشوق والابتهاج، حاملاً الوردة في يده. وكانت ابنة الأستاذ جالسةً عند مدخل البيت تلفّ خيطاً حريرياً أزرق على بكرة، بينما كان كلبها مستلقياً على قدميها.
صاح التلميذ في حماسٍ شديد فور وصوله: " لقد قلتِ لي أنكِ سوف ترقصين معي إن أنا أحضرتُ لكِ وردةً حمراء. إنني أحمل معي الآن الوردة الأكثر حُمرةً في العالم. ستضعينها الليلة على فستانك قُرب قلبك، وبينما نحن نتراقص يا حبيبتي، ستحكي لكِ عن حبي وهيامي بك" .
ولكن الفتاة قطبت حاجبيها وأجابت ببرود: " أخشى ألاّ تناسب الوردة لون ثوبي. وقد أرسل لي ابن أخ حاجب الملك بعض الجواهر، والجميع يعلم أن الجواهر ثمنها أغلى بكثير من الورود" .
فصُعق ودارت به الأرض، ثم اشتعل غضباً فقال: " أتعلمين..أنتِ ناكرةٌ للجميل" .
وقذف بالوردة على الطريق حتى وقعت قرب قناةٍ لمجاري المياه، ثم سحقها إطار عربةٍ وشتّت أوراقها.
ثم صاحت الفتاة : " أأنا ناكرةٌ للجميل؟!. يا لك من فظ، ولكن قل لي، من تكون أنت؟ إنك مجرد تلميذ. لا أظن أنك تملك مشبكاً فضياً لحذائك مثل ابن أخ الحاجب" .
ثم نهضت عن مقعدها ودلفت إلى داخل المنزل.
عاد التلميذ أدراجه إلى منزله، وأخذ يكلم نفسه ويقول: " ما أسخف الحب ! ، ليس له حتى نصف فائدة المنطق؛ فلا يدلّ الحب على شيء، وإنما يحدثك دوماً بأشياء لن تحدث، ويجعلك تصدق أشياءً لا تُصدق. في الحقيقة، هذا الحب غير واقعي أو عملي، وهذا الزمن هو زمن الواقع. لقد أضعتُ وقتي، وأعتقد أنه يجدر بي أن أعود إلى الفلسفة وأقرأ قليلاً في ما وراء الطبيعة".
وهكذا عاد إلى غرفته وسحب من مكتبته كتاباً ضخماً يملؤه الغبار، وأخذ يقرأ.
>>>>> ردود الأعضـــــــــــــــــــاء على الموضوع <<<<<
==================================
__________________________________________________ __________
__________________________________________________ __________
__________________________________________________ __________
__________________________________________________ __________