عنوان الموضوع : كتاب :التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة ( الإمام القرطبي ) سنة النبي
مقدم من طرف منتديات نساء الجزائر
كتاب :التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة ( الإمام القرطبي )
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة
الإمام القرطبي
كتاب في الوعظ والإرشاد جمع فيه ا آيات وأحاديث في ذكر الموت وأحوال الموتى وذكر الحشر والنشر والجنة والنار والفتن والأشراط، وقد رتب كتابه على الأبواب وجعل عقب كل باب فصلا أو فصولا يذكر فيها ما يحتاج إليه من بيان غريب أو فقه في حديث، أو إيضاح مشكل لتكمل فائدته ويعظم نفعه .
سأقوم بنقله كاملاً ان شاء الله
باب النهي عن تمني الموت و الدعاء به لضر نزل في المال و الجسد
روى مسلم عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به ، فإن كان لا بد متمنياً فليقل : اللهم أحيني ما كانت الحياة خيراً لي و توفني إذا كانت الوفاة خيراً لي أخرجه البخاري ، و عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لا يتمنين أحدكم الموت و لا يدع به من قبل أن يأتيه ، إنه إذا مات أحدكم انقطع عمله ، و إنه لا يزيد المؤمن عمره إلا خيراً .
و قال البخاري : لا يتمنين أحدكم الموت : إما محسناً فلعله أن يزداد خيراً ، و إما مسيئاً فلعله أن يستعتب .
البزار عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لا تمنوا الموت فإن هول المطلع شديد ، و إن من السعادة أن يطول عمر العبد حتى يرزقه الله الإنابة .
فصل : قال العلماء : الموت ليس بعدم محض و لا فناء صرف و إنما هو انقطاع تعلق الروح بالبدن و مفارقته و حيلولة بينهما ، و تبدل حال و انتقال من دار إلى دار ، و هو من أعظم المصائب ، و قد سماه الله تعالى مصيبة ، و في قوله فأصابتكم مصيبة الموت فالموت هو المصيبة العظمى و الرزية الكبرى .
قال علماؤنا : و أعظم منه الغفلة عنه ، و الإعراض عن ذكره ، و قلة التفكر فيه ، و ترك العمل له ، و إن فيه وحده لعبرة لمن اعتبر و فكرة لمن تفكر ، و في خبر يروى عن النبي صلى الله عليه و سلم : لو أن البهائم تعلم من الموت ما تعلمون ما أكلت منها سميناً .
و يروى أن إعرابياً كان يسير على جمل له فخر الجمل ميتاً ، فنزل الأعرابي عنه و جعل يطوف به و يتفكر فيه و يقول : مالك لا تقوم ؟ مالك لا تنبعث ، هذه أعضاؤك كاملة و جوارحك سالمة . ما شأنك ؟ ما الذي كان يحملك ؟ ما الذي كان يبعثك ؟ ما الذي صرعك ؟ ما الذي عن الحركة منعك ؟ ثم تركه و انصرف متفكراً في شأنه . متعجباً من أمره . و أنشدوا في بعض الشجعان مات حتف أنفه :
جائته من قبل المنون إشارةً فهوى صريعاً لليدين و للفم
و رمى بمحكم درعه و برمحه و امتد ملقىً كالفتيق الأعظم
لا يستجيب لصارخ إن يدعه أبداً و لا يرجى لخطب معظم
ذهبت بسالته و مر غرامه لما رأى حبل المنية يرتمي
يا ويحه من فارس ما باله ذهبت مروته و لما يكلم
هذي يداه و هذه أعضاؤه ما منه من عضو غداً بمثلم
هيهات ما حبل الردى محتاجة للمشرفي و لا اللسان اللهذم
هي ويحكم أمر الإله و حكمه و الله يقضي بالقضاء المحكم
يا حسرتا لو كان يقدر قدرها و مصيبة عظمت و لما تعظم
خبر علمنا كلنا بمكانه و كأننا في حالنا لم نعلم
و روى الترمذي الحكيم أبو عبد الله في نوادر الأصول . حدثنا قتيبة بن سعيد و الخطيب بن سالم . عن عبد العزيز الماجشون . عن محمد بن المنكدر قال : مات ابن لآدم عليه السلام فقال يا حواء قد مات ابنك . فقالت : و ما الموت ؟ قال : لا يأكل و لا يشرب . و لا يقوم و لا يقعد . فرنت . فقال آدم عليه السلام : عليك الرنة و على بناتك أنا و بني منها برآء . فصل : قوله : فلعله أن يستعتب . الاستعتاب طلب العتبى . و هو الرضى و ذلك لا يحصل إلا بالتوبة و الرجوع عن الذنوب . قال الجوهري :
استعتب : طلب أن يعتب تقول : استعتبته فأعتبني . أي استرضيته . فأرضاني . و في التنزيل في حق الكافرين و إن يستعتبوا فما هم من المعتبين
و روى عن سهل بن عبد الله التستري أنه قال : لا يتمنى أحدكم الموت إلا ثلاثة : رجل جاهد بما بعد الموت أو رجل يفر من أقدار الله تعالى عليه . أو مشتاق محب للقاء الله عز و جل .
و روي أن ملك الموت عليه السلام جاء إلى إبراهيم عليه السلام خليل الرحمن عز و جل ليقبض روحه . فقال إبراهيم : يا ملك الموت هل رأيت خليلاً يقبض روح خليله ؟ فعرج ملك الموت عليه السلام إلى ربه فقال قل له : هل رأيت خليلاً يكره لقاء خليله ؟ فرجع فقال اقبض روحي الساعة. و قال أبو الدرداء رضي الله عنه : ما من مؤمن إلا و الموت خير له فمن لم يصدقني فأن الله تعالى يقول : و ما عند الله خير للأبرار و قال تعالى و لا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم و قال حيان بن الأسود : الموت جسر يوصل الحبيب إلى الحبيب .
باب جواز تمني الموت و الدعاء به خوف ذهاب الدين
قال الله عز و جل مخبراً عن يوسف عليه السلام : توفني مسلماً و ألحقني بالصالحين و عن مريم عليها السلام في قولها : يا ليتني مت قبل هذا و كنت نسياً منسيا و عن مالك عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : لا تقوم الساعة حتى يمر حتى بقبر الرجل فيقول فيقول : يا ليتني مكانه .
فصل : قلت : لا تعارض بين هذه الترجمة و التي قبلها لما نبينه . أما يوسف عليه السلام . فقال قتادة : لم يتمن الموت أحد : نبي و لا غيره إلا يوسف عليه السلام حين تكاملت عليه النعم و جمع له الشمل : اشتاق إلى لقاء ربه عز وجل فقال : رب قد آتيتني من الملك و علمتني الآية . فاشتاق إلى لقاء ربه عز وجل ، و قيل إن يوسف عليه السلام لم يتمن الموت و إنما تمنى الموافاة على الإسلام . أي إذا جاء أجلي تو فني مسلماً . و هذا هو القول المختار في تأويل الآية عند أهل التأويل . و الله أعلم .
و أما مريم عليها السلام فإنما تمنت الموت لوجهين :
أحدهما : أنها خافت أن يظن بها السوء في دينها و تعير ، فيفتنها ذلك .
الثاني : لئلا يقع قوم بسببها في البهتان و الزور ، و النسبة إلى الزنا ، و ذلك مهلك لهم . و الله أعلم .
و قد قال الله تعالى عز و جل في حق من افترى على عائشة رضي الله عنها و الذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم و قال : و تحسبونه هيناً و هو عند الله عظيم و قد اختلف في مريم عليها السلام : هل هي صديقة لقوله تعالى : و أمه صديقة أو نبية لقوله تعالى : فأرسلنا إليها روحنا . و قوله : إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك الآية . و عليه فيكون الافتراء عليها عظيم أعظم و البهتان في حقها أشد . و فيه يكون الهلاك حقاً . فعلى هذا الحد الذي ذكرناه من التأويلين يكون تمني الموت في حقها جائز ، و الله أعلم .
و أما الحديث فإنما هو خبر : أن ذلك سيكون لشدة ما ينزل بالناس ، من فساد الحال في الدين ، و ضعفه و خوف ذهابه ، لا لضر ينزل بالمرء في جسمه أو غير ذلك ، من ذهاب ماله مما يحط به عنه خطاياه . و مما يوضح هذا المعنى و يبينه قوله عليه السلام : اللهم إني أسألك فعل الخيرات و ترك المنكرات و حب المساكين و إذا أردت ـ و يروى أدرت ـ في الناس فتنة فاقبضني إليك غير مفتون . رواه مالك و مثل هذا قول عمر رضي الله عنه : اللهم قد ضعفت قوتي و كبرت سني و انتشرت رعيتي فاقبضني إليك غير مضيع و لا مقصر فما جاوز ذلك الشهر حتى قبض رحمه الله . رواه مالك أيضاً .
و ذكر أبو عمر بن عبد البر في التمهيد و الاستذكار من حديث زاذان أبي عمر عن عليم الكندي قال : كنت جالساً مع أبي العباس الغفاري على سطح فرأى ناساً يتحملون من الطاعون فقال : يا طاعون خذني إليك يقولها ثلاثاً فقال عليم : لم تقول هذا ؟ ألم يقل رسول الله صلى الله عليه و سلم : لا يتمنين أحدكم الموت فإنه عند ذلك انقطاع عمله و لا يرد فيسعتب فقال أبو عباس : أنا سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : بادروا بالموت ستا : إمرة السفهاء ، و كثرة الشرط ، و بيع الحكم ، و استخفافاً بالدم ، و قطيعة الرحم ، و نشئاً يتخذون القرآن مزامير ، يقدمون الرجل ليغنيهم بالقرآن و إن كان أقلهم فقهاً . و سيأتي لهذا مزيد بيان في الفتن ـ إن شاء الله تعالى .
باب ذكر الموت و الاستعداد له
النسائي عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : أكثروا ذكر هادم اللذات يعني الموت . أخرجه ابن ماجه و الترمذي أيضاً . و خرجه أبو نعيم الحافظ بإسناده من حديث مالك بن أنس عن يحيى بن سعيد بن المسيب عن عمر بن الخطاب قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : أكثروا من ذكر هادم اللذات قلنا يا رسول الله : و ما هادم اللذات ؟ قال : الموت .
ابن ماجه عن ابن عمر قال : كنت جالساً مع رسول الله صلى الله عليه و سلم فجاء رجل من الأنصاري فسلم على النبي صلى الله عليه و سلم فقال يا رسول الله : أي المؤمنين أفضل ؟ قال : أحسنهم خلقاً قال : فأي المسلمين أكيس ؟ قال : أكثرهم للموت ذكراً و أحسنهم لما بعدهم استعداداً أولئك الأكياس أخرجه مالك أيضاً . و سيأتي في الفتن ـ إن شاء الله تعالى .
الترمذي عن شداد بن أوس قال : قال النبي صلى الله عليه و سلم : الكيس من دان نفسه ، و عمل لما بعد الموت . و العاجز من أتبع نفسه هواها ، و تمنى على الله .
و روي عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : أكثروا ذكر الموت . فإنه يمحص الذنوب ، و يزهد في الدنيا و روي عنه عليه السلام أنه قال : كفى بالموت واعظاً و كفى بالموت مفرقاً . و قيل له يا رسول الله : هل يحشر مع الشهداء أحد ؟ قال : نعم ، من يذكر الموت في اليوم و الليلة عشرين مرة . و قال السدي في قوله تعالى : الذي خلق الموت و الحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً أي أكثركم للموت ذكراً ، و له أحسن استعداداً و منه أشد خوفاً و حذراً .
فصل : قال علماؤنا رحمة الله عليهم . قوله عليه السلام : أكثروا ذكر هادم اللذات الموت كلام مختصر و جيز قد جمع التذكرة و أبلغ في الموعظة فإن من ذكر الموت حقيقة ذكره نغص عليه لذته الحاضرة ، و منعه من تمنيها في المستقبل و زهده فيما كان منها يؤمل ، و لكن النفوس الراكدة ، و القلوب الغافلة تحتاج إلى تطويل الوعاظ ، و تزويق الألفاظ ، و إلا ففي قوله عليه الصلاة و السلام : أكثروا ذكر هادم اللذات مع قوله تعالى : كل نفس ذائقة الموت ما يكفي السامع له ، و يشغل الناظر فيه و كان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب كثيراً ما يتمثل بهذه الأبيات :
لا شيء مما ترى تبقى بشاشته يبقى الإله و يودي المال و الولد
لم تغن عن هرمز يوماً خزائنه و الخلد قد حاولت عاد فما خلدوا
و لا سليمان إذ تجري الرياح له و الإنس و الجن فيما بينها ترد
أين الملوك التي كانت لعزتها من كل أوب إليها وافد يفد ؟
حوض هنالك مورود بلا كذب لا بد من ورده يوماً كما وردوا
فصل : إذ ثبت ما ذكرناه . فاعلم أن ذكر الموت يورث استشعار الانزعاج عن هذه الدار الفانية ، و التوجه في كل لحظة إلى الدار الآخرة الباقية ، ثم إن الإنسان لا ينفك عن حالتي ضيق و سعة ، و نعمة و محنة ، فإن كان في حال ضيق و محنة . فذكر الموت يسهل عليه بعض ما هو فيه ، فإنه لا يدوم . و الموت أصعب منه ، أو في حال نعمة و سعة فذكر الموت يمنعه من الاغترار بها ، و السكون إليها ، لقطعه عنها . و لقد أحسن من قال :
اذكر الموت هادم اللذات و تجهز لمصرع سوف يأتي
و قال غيره :
و اذكر الموت تجد راحة في إذكار الموت تقصير الآمل
و أجمعت الأمة على أن الموت ليس له سن معلوم ، و لا زمن معلوم ، و لا مرض معلوم . و ذلك ليكون المرء على أهبة من ذلك ، مستعداً لذلك . و كان بعض الصالحين ينادي بليل على سور المدينة : الرحيل . الرحيل . فلما توفي فقد صوته أمير المدينة فسأل عنه . فقيل : إنه قد مات فقال :
ما زال يلهج بالرحيل و ذكره حتى أناخ ببابه الجمال
فأصابه متيقظاً متشمراً ذا أهبة لم تلهه الآمال
و كان يزيد الرقاشي يقول لنفسه : و يحك يا يزيد ، من ذا يترضى عنك ربك الموت ؟ ثم يقول : أيها الناس ألا تبكون و تنوحون على أنفسكم باقي حياتكم ؟ من الموت طالبه و القبر بيته . و التراب فراشه . و الدود أنيسه . و هو مع هذا ينتظر الفزع الأكبر يكون حاله ؟ ثم يبكي حتى يسقط مغشياً عليه .
و قال التيمي : شيئان قطعا عني لذة الدنيا : ذكر الموت . و ذكر الموقف بين يدي الله تعالى . و كان عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه يجمع العلماء فيتذاكرون الموت ، و القيامة ، و الآخرة ، فيبكون حتى كأن بين أيديهم جنازة .
و قال أبو نعيم : كان الثوري إذا ذكر الموت لا ينتفع به أياماً . فإن سئل عن شيء قال : لا أدري لا أدري . و قال أسباط : ذكر عند النبي صلى الله عليه و سلم رجل فأثنى عليه فقال عليه السلام : كيف ذكره للموت ؟ فلم يذكر ذلك عنه . فقال : ما هو كما تقولون .
و قال الدقاق : من أكثر من ذكر الموت أكرم بثلاثة أشياء : تعجيل التوبة و قناعة القلب ، و نشاط العبادة . و من نسي الموت عوقب بثلاثة أشياء : تسويف التوبة ، و ترك الرضى بالكفاف ، و التكاسل في العبادة ، فتفكر يا مغرور في الموت و سكرته ، و صعوبة كأسه و مرارته ، فيما للموت من وعد ما أصدقه ، و من حاكم ما أعدله ، كفى بالموت مقرحاً للقلوب ، و مبكياً للعيون ،و مفرقاً للجماعات ، و هادماً للذات ، و قاطعاً للأمنيات ، فهل تفكرت يا ابن آدم في يوم مصرعك ، و انتقالك من موضعك ، و إذا نقلت من سعة إلى ضيق ، و خانك الصاحب و الرفيق ، و هجرك الأخ و الصديق ، و أخذت من فراشك و غطائك إلى عرر ، و غطوك من بعد لين لحافك بتراب و مدر ، فيا جامع المال ، و المجتهد في البنيان ليس لك و الله من مال إلا الأكفان ، بل هي و الله للخراب و الذهاب و جسمك للتراب و المآب . فأين الذي جمعته من المال ؟ فهل أنقذك من الأهوال ؟ كلا بل تركته إلى من لا يحمدك ، و قدمت بأوزارك على من لا يعذرك . و لقد أحسن من قال في تفسير قوله تعالى : و ابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة أي : اطلب فيما أعطاك الله من الدنيا ، الدار الآخرة و هي الجنة ، فإن حق المؤمن أن يصرف الدنيا فيما ينفعه في الآخرة ، لا في الطين و الماء و التجبر و البغي ، فكأنهم قالوا : لا تنس أنك تترك جميع مالك إلا نصيبك الذي هو الكفن ، و نحو هذا قول الشاعر :
نصيبك مما تجمع الدهر كله : رداءان تلوى فيهما ، و حنوط
و قال آخر :
هي القناعة لا تبغي بها بدلاً فيها النعيم و فيها راحة البدن
انظر لمن ملك الدنيا بأجمعها هل راح منها بغير القطن و الكفن ؟
فصل : و قوله عليه الصلاة و السلام : الكيس من دان نفسه دان حاسب . و قيل : ذل . قال أبو عبيد : دان نفسه : أي أذلها و استعبدها . يقال : دنته أدينه ، إذ ذللته فيذل نفسه في عبادة الله سبحانه و تعالى ، عملاً يعده لما بعد الموت ، و لقاء الله تعالى ، و كذلك يحاسب نفسه على ما فرط من عمره ، ويستعد لعاقبة أمره ، بصالح عمله ، و التنصل من سالف زلله ، و ذكر الله تعالى و طاعته في جميع أحواله . فهذا هو الزاد ليوم المعاد . و العاجز ضد الكيس . و الكيس : العاقل ، والعاجز : المقصر في الأمور ، فهو مع تقصيره في طاعة ربه ، و اتباع شهوات نفسه متمن على الله أن يغفر له . و هذا هو الاغترار فإن الله تعالى أمره و نهاه ، و قال الحسن البصري : [ إن قوماً آلهتهم الأماني حتى خرجوا من الدنيا و ما لهم حسنة و يقول أحدهم : إني أحسن الظن بربي . و كذب لو أحسن الظن لأحسن العمل ] و تلا قوله تعالى : و ذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين . و قال سعيد بن جبير : [ الغرة بالله أن يتمادى الرجل بالمعصية ، و يتمنى على الله المغفرة ] . و قال بقية بن الوليد : كتب أبو عمير الصوري إلى بعض إخوانه :
أما بعد [ فإنك قد أصبحت تؤمل الدنيا بطول عمرك ، و تتمنى على الله الأماني بسوء فعلك . و إنما تضرب حديداً بارداً و السلام ] . و سيأتي لهذا مزيد بيان في باب ما جاء أن القبر أول منازل الآخرة . إن شاء الله تعالى .
يتبع
>>>>> ردود الأعضـــــــــــــــــــاء على الموضوع <<<<<
==================================
في أمور تذكر الموت و الأخرة و يزهد في الدنيا
مسلم عن أبي هريرة قال : زار النبي صلى الله عليه و سلم قبر أمه فبكى و أبكى من حوله فقال : استأذنت ربي أن أستغفر لها فلم يؤذن لي و استأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي . فزوروا القبور فإنها تذكر الموت و عن ابن ماجه ، عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : كنت نهيتكم عن زيارة القبور . فزورها . فإنها تزهد في الدنيا و تذكر الآخرة . فصل : زيارة القبور للرجال متفق عليه عند العلماء ، مختلف فيه للنساء . أما الشواب فحرام عليهن الخروج . و أما القواعد فمباح لهن ذلك و جائز ذلك لجميعهن إذا انفردن بالخروج عن الرجال و لا يختلف في هذا إن شاء الله تعالى . و على هذا المعنى يكون قوله عليه الصلاة و السلام : زوروا القبور عاماً . و أما موضع أو وقت يخشى فيه الفتنة من اجتماع الرجال و النساء فلا يجوز و لا يحل ، فبينا الرجل يخرج ليعتبر فيقع بصره على امرأة فيفتتن ، و بالعكس فيرجع كل واحد من الرجال و النساء مأزوراً مأجوراً و هذا واضح . و الله أعلم .
و قد رأى بعض أهل العلم : أن لعن النبي صلى الله عليه و سلم زوارات القبور كان قبل أن يرخص في زيارة القبور ، فلما رخص دخل الرجال و النساء و ما ذكرناه لك أولاً أصح و الله أعلم .
و روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه خرج إلى المقبرة فلما أشرف عليها قال : ياأهل القبور أخبرونا عنكم ، أو نخبركم . أما خبر من قبلنا : فالمال قد اقتسم ، و النساء قد تزوجن ، والمسكن قد سكنها قوم غيركم ، ثم قال : أما و الله لو استطاعو لقالوا : لم نر زاداً خيراً من التقوى .
و لقد أحسن أبو العتاهية حيث يقول :
ياعجباً للناس لو فكروا و حاسبوا أنفسهم أبصروا
و عبروا الدنيا إلى غيرها فإنما الدنيا لهم معبر
لا فخر إلا فخر أهل التقى غداً إذا ضمهم المحشر
ليعلمن الناس أن التقي و البر كانا خير ما يدخر
عجبت للإنسان في فخره و هو غداً في قبره يقبر
ما بال من أوله نطفة و جيفة آخره يفجر
أصبح لا يملك تقديم ما يرجو و لا تأخير ما يحذر
و أصبح الأمر إلى غيره في كل ما يقضي و ما يقدر
فصل : قال العلماء رحمة الله عليهم : ليس للقلوب أنفع من زيارة القبور و خاصة إن كانت قاسية فعلى أصحابها أن يعالجوها بأربعة أمور :
أحدها : الإقلاع عما هي عليه بحضور مجالس العلم بالوعظ و التذكر ، و التخويف و الترغيب ، و أخبار الصالحين . فإن ذلك مما يلين القلوب و ينجع فيها .
الثاني : ذكر الموت من ذكر هادم اللذات و مفرق الجماعات و ميتم البنين و البنات كما تقدم في الباب قبل ، يروى أن امرأة شكت إلى عائشة رضي الله عنها قساوة قلبها . فقالت لها : أكثري من ذكر الموت يرق قلبك . ففعلت ذلك فرق قلبها . فجاءت تشكر عائشة رضي الله عنها . قال العلماء : تذكر الموت يردع عن المعاصي ، و يلين القلب القاسي ، و يذهب الفرح بالدنيا و يهون المصائب فيها .
الثالث : مشاهدة المحتضرين ، فإن في النظر إلى الميت و مشاهدة سكراته ، و نزعاته ، و تأمل صورته بعد مماته ، ما يقطع عن النفوس لذاتها ، و يطرد عن القلوب مسراتها ، و يمنع الأجفان من النوم ، و الأبدان من الراحة ، ويبعث على العمل ، و يزيد في الاجتهاد و التعب .
يروى أن الحسن البصري دخل على مريض يعوده فوجده في سكرات الموت فنظر إلى كربه ، و شدة ما نزل به ، فرجع إلى أهله ، بغير اللون الذي خرج به من عندهم فقالوا له : الطعام يرحمك الله فقال : يا أهلاه عليكم بطعامكم و شرابكم . فو الله لقد رأيت مصرعاً لا أزال أعمل له حتى ألقاه .
فهذه ثلاثة أمور ينبغي لمن قسا قلبه ، و لزمه ذنبه ، أن يستعين بها على دواء دائه ، و يستصرخ بها على فتن الشيطان و إغوائه ، فإن انتفع بها فذاك ، و إن عظم عليه ران القلب ، و استحكمت فيه دواعي الذنب ، فزيارة قبور الموتى تبلغ في دفع ذلك مالا يبلغه الأول ، و الثاني ، و الثالث . و لذلك قال عليه السلام زوروا القبور فإنها تذكر الموت و الآخرة ، و تزهد في الدنيا ، فالأول : سماع بالأذن ، و الثاني : إخبار للقلب بما إليه المصير ، و قائم له مقام التخويف و التحذير في مشاهدة من احتضر ، و زيارة قبر من مات من المسلمين معاينة ، فلذلك كانا أبلغ من الأول و الثاني .
قال صلى الله عليه و سلم : ليس الخبر كالمعاينة رواه ابن عباس و لم يروه أحد غيره إلا أن الاعتبار بحال المحتضرين غير ممكن في كل الأوقات . و قد لا يتفق لمن أراد علاج قلبه في ساعة من الساعات ، و أما زيارة القبور : فوجودها أسرع ، و الانتفاع بها أليق و أجدر ، فينبغي لمن عزم على الزيارة أن يتأدب بآدابها ، و يحضر قلبه في إتيانها ، و لا يكون حظه منها الطواف على الأجداث فقط ، فإن هذه حالة تشاركه فيها بهيمة و نعوذ بالله من ذلك . بل يقصد بزيارته : وجه الله تعالى ، و إصلاح فساد قلبه ، أو نفع الميت مما يتلوه عنده من القرآن . على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى . و يجتنب المشي على المقابر ، و الجلوس عليها إذا دخل المقابر ، و يخلع نعليه . كما جاء في أحاديث ، و يسلم إذا دخل المقابر ، و يخاطبهم خطاب الحاضرين . فيقول : السلام عليكم دار قوم مؤمنين ، كذلك كان عليه الصلاة و السلام يقول ، و كنى بالدار عن عمارها و سكانها . و لذلك خاطبهم بالكاف و الميم لأن العرب تعبر بالمنزل عن أهله . و إذا وصل إلى قير ميته الذي يعرف سلم عليه أيضاً فييقول : عليك السلام .
روى الترمذي في جامعه : أن رجلاً دخل عبى النبي صلى الله عليه و سلم ، فقال : عليك السلام ، فقال صلى الله عليه و سلم : لا تقل عليك السلام ، فإن عليك السلام تحية الميت و ليأته من تلقاء وجهه في زيارته كمخاطبته حياً ، و لو خاطبة حياً لكان الأدب استقباله بوجهه . فكذلك ههنا . ثم يعتبر بمن صار تحت التراب ، و انقطع عن الأهل و الأحباب ، بعد أن قاد الجيوش و العساكر ، و نافس الأصحاب و العشائر ، و جمع الأموال و الذخائر ، فجاءه الموت على وقت لم يحتسبه ، و هول لم يرتقبه . فليتأمل الزائر حال من مضى من إخوانه ، و درج من أقرانه ، الذين بلغوا الآمال و جمعوا الأموال . كيف انقطعت آمالهم ، و لم تغن عنهم أموالهم ، و محا التراب محاسن وجوههم ، و افترقت في القبور أجزاؤهم ، و ترمل بعدهم نساؤهم ، و شمل ذل اليتم أولادهم ، و اقتسم غيرهم طريقهم و بلادهم .
و ليتذكر ترددهم في المآرب ، و حرصهم على نيل المطالب ، و انخداعهم لمؤاتاة الأسباب ، و ركونهم إلى الصحة و الشباب ، و ليعلم أن ميله إلى اللهو و اللعب كميلهم ، و غفلته عما بين يديه من الموت الفظيع و الهلاك السريع كغفلتهم ، و أنه لا بد صائر إلى مصيرهم ، و ليحضر بقلبه ذكر من كان متردداً في أغراضه ، و كيف تهدمت رجلاه . و كان يتلذذ بالنظر إلى ما حوله و قد سالت عيناه ، و يصول ببلاغة نطقه ، و قد أكل الدود لسانه ، و يضحك لمؤاتاة دهره و قد أبلى التراب أسنانه ، و ليتحقق أن حاله كحاله ، و مآله كمآله ، و عند هذا التذكر و الاعتبار ، يزول عنه جميع الأغيار الدنيوية ، و يقبل على الأعمار الأخروية ، فيزهد في دنياه ، و يقبل على طاعة مولاه ، و يلين قلبه ، و يخشع جوارحه . و الله أعلم .
فصل : جاء في هذا الباب : حديث يعرض حديث هذا الباب . و هو ما خرجه أبو بكر أحمد بن علي الخطيب في كتاب السابق و اللاحق ، و أبو حفص عمر بن شاهين في الناسخ و المنسوخ له في الحديث بإسناديهما عن عائشة رضي الله عنها قالت : حج بنا رسول الله صلى الله عليه و سلم حجة الوداع فمر بي على عقبة الحجون و هو باك حزين ، مغتم فبكيت لبكائه صلى الله عليه و سلم ثم إنه طفر أي وثب فنزل فقال : يا حميراء استمسكي فاستندت إلى جنب البعير . فمكث عني طويلا ثم عاد إلي و هو فرح مبتسم فقلت له : بأبي أنت و أمي يا رسول الله . نزلت من عندي و أنت باك حزين مغتم فبكيت لبكائك يا رسول الله ، ثم إنك عدت إلي و أنت فرح مبتسم فعن ماذا يا رسول الله ؟ فقال : مررت بقبر أمي آمنة فسألت الله ربي أن يحييها فأحياها فآمنت بي ـ أو قال ـ فآمنت و ردها الله عز و جل لفظ الخطيب . و قد ذكر السهيلي في الروض الأنف بإسناد فيه مجهولون [ أن الله تعالى أحيا له أباه و أمه و آمنا به ] .
قال الشيخ المؤلف رحمه الله : و لا تعارض و الحمد لله ، لأن إحياءهما متأخر عن النهي بالاستغفار لهما . بدليل حديث عائشة رضي الله عنها : أن ذلك كان في حجة الوداع و كذلك جعله ابن شاهين ناسخاً لما ذكر من الأخبار .
قلت : و يبينه حديث مسلم عن أنس أن رجلاً قال يا رسول الله : أين أبي ؟ قال : في النار فلما قفا دعاه قال : إن أبي و أباك في النار و حديث سلمة بن يزيد الجعفي و فيه : فلما رأى ما دخل علينا قال : و أمي مع أمكما و هذا إن صح إحياؤهما . و قد سمعت : أن الله تعالى أحيا له عمه أبا طالب و آمن به . و الله أعلم .
و قد قيل : إن الحديث في إيمان أمه و أبيه موضوع يرده القرآن العظيم و الإجماع قال الله العظيم و لا الذين يموتون و هم كفار فمن مات كافراً لم ينفعه الإيمان بعد الرجعة ، بل لو آمن عند المعاينة لم ينتفع فكيف بعد الإعادة ؟ و في التفسير أنه عليه السلام قال : ليت شعري ما فعل أبواي فنزل و لا تسأل عن أصحاب الجحيم .
قال المؤلف : ذكره الحافظ أبو الخطاب عمر بن دحية و فيه نظر ، و ذلك أن فضائل النبي صلى الله عليه و سلم و خصائصه لم تزال تتوالى و تتابع إلى حين مماته ، فيكون هذا مما فضله الله تعالى و أكرمه به .
ليس إحياؤهما و إيمانهما بممتنع عقلاً و لا شرعاً . فقد ورد في الكتاب إحياء قتيل بني إسرائيل و إخباره بقاتله ، و كان عيسى عليه السلام يحيى الموتى ، و كذلك نبينا عليه الصلاة و السلام أحيا الله تعالى على يديه جماعة من الموتى ، و إذا ثبت هذا فما يمنع من إيمانهما بعد إحيائهما زيادة في كرامته و فضيلته مع ما ورد من الخبر في ذلك و يكون ذلك خصوصاً فيمن مات كافراً ، و قوله : فمن مات كافراً إلى آخر كلامه مردود بما روي في الخبر أن الله تعالى رد الشمس على نبيه عليه السلام بعد مغيبهما ، ذكر أبو جعفر الطحاوي و قال : إنه حديث ثابت فلو لم يكن رجوع الشمس نافعاً و أنه لا يتجدد الوقت لما ردها عليه ، فكذلك يكون إحياء أبوي النبي صلى الله عليه و سلم نافعاً لإيمانهما و تصديقهما بالنبي صلى الله عليه و سلم . و قد قبل الله إيمان قوم يونس و توبتهم مع تلبسهم بالعذاب فيما ذكر في بعض الأقوال و هو ظاهر القرآن . و أما الجواب عن الآية فيكون ذلك قبل إيمانهما و كونهما في العذاب . و الله بغيبه أعلم و أحكم .
باب منه ، و ما يقال عند دخول المقابر و جواز البكاء عندها
أبو داود عن بريدة بن خصيب قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها . فإن في زيارتها تذكرة ، و ذكر النسائي عن بريدة أيضاً عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : من أراد أن يزور قبراً فليزره ، و لا تقولوا هجراً بمعنى سوءاً ، و ذكر أبو عمر من حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : ما من رجل يمر بقبر أخيه المؤمن كان يعرفه فسلم عليه ، إلا رد عليه السلام روي هكذا موقوفاً عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : فإن لم يعرفه و سلم : رد عليه السلام .
مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت : قلت يا رسول الله : كيف أقول إذا دخلت المقابر ؟ قال : قولي السلام على أهل الديار من المؤمنين و المسلمين ، و يرحم الله المستقدمين منا و المتأخرين . و إنا إن شاء الله بكم لاحقون خرجه مسلم من حديث بريدة أيضاً . و زاد : أسأل الله لنا و لكم العافية ، و في الصحيحين أنه عليه السلام مر بامرأة تبكي عند قبر لها فقال لها : اتقي الله و اصبري الحديث .
فصل : هذه الأحاديث تشتمل على فقه عظيم و هو جواز زيارة القبور للرجال و النساء و السلام عليها و ورد الميت السلام على من يسلم عليه و جواز بكاء النساء عند القبر ، و لو كان بكاؤهن و زيارتهن حراماً لنهى النبي صلى الله عليه و سلم المرأة و لزجرها زجراً يزجر مثله من أتى محرماً و ارتكب منهياً . و ما روي من نهي النساء عن زيارة القبور فغير صحيح . و الصحيح ما ذكرت لك من الإباحة إلا أن عمل النساء في خروجهن مما لا يجوز لهن من تبرج أو كلام أو غيره فلذلك المنهي عنه . و قد ذكرت لك في الباب قبل الفرق بين المتجالة و الشابة فتأمله ، و قد أبيح لك أن تبكي عند قبر ميتك حزناً عليه أو رحمة له مما بين يديه ، كما أبيح لك البكاء عند موته . و البكاء عند العرب يكون البكاء المعروف و تكون النياحة . و قد يكون معهما الصياح و ضرب الخدود و شق الجيوب . و هذا محرم بإجماع العلماء ، و هو الذي ورد فيه الوعيد من قوله عليه السلام : أنا بريء ممن حلق و سلق و خرق خرحه مسلم .
و أما البكاء من غير نياحة فقد ورد فيه الإباحة عند القبر ، و عند الموت ، و هو بكاء الرأفة و الرحمة التي لا يكاد يخلو منها إنسان . و قد بكى النبي صلى الله عليه و سلم لما مات ابنه إبراهيم . و قال عمر : دعهن يبكين على أبي سليمان ما لم يكن نقع أو لقلقة ] النقع : ارتفاع الصوت . و اللقلقة : تتابع ذلك . و قيل : النقع : وضع التراب على الرأس . و الله أعلم .
__________________________________________________ __________
باب المؤمن يموت بعرق الجبين
ابن ماجه عن بريدة أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : المؤمن يموت بعرق الجبين خرجه الترمذي و قال فيه : حديث حسن .
و روى عن سلمان الفارسي رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : ارقبوا للميت عند موته ثلاثاً : إن رشح جبينه . و ذرفت عيناه . و انتشر منخراه . فهي رحمة من الله قد نزلت به . و إن غط غطيط البكر المخنوق . و خمد لونه . و ازبد شدقاه . فهو عذاب من الله تعالى قد حل به خرجه أبو عبد الله الترمذي الحكيم في نوادر الأصول له . و قال : قال عبد الله : إن المؤمن يبقى عليه خطايا من خطاياه فيجازف بها عند الموت أي يجازي فيعرق لذلك جبينه . و قال بعض العلماء : إنما يعرق جبينه حياء من ربه لما اقترف من مخالفته ، لأن ما سفل منه قد مات ، و إنما بقيت قوى الحياة و حركاتها فيما علا ، و الحياء في العينين و ذلك وقت الحياء و الكافر في عمى عن هذا كله ، و الموحد المعذب في شغل عن هذا بالعذاب الذي قد حل به . و إنما العرق الذي يظهر لمن حلت به الرحمة ، فإنه ليس من ولي و لا صديق و لا بر إلا و هو مستحي من ربه ، مع البشرى و التحف و الكرامات .
قلت : و قد تظهر العلامات الثلاث ، و قد تظهر واحدة و تظهر اثنتان ، و قد شاهدنا عرق الجبين وحده . و ذلك بحسب تفاوت الناس في الأعمال ، و الله أعلم .
و في حديث ابن مسعود : [ موت المؤمن بعرق الجبين تبقى عليه البقية من الذنوب فيجازف بها عند الموت ] أي يشدد لتمحص عنه ذنوبه .
باب منه في خروج نفس المؤمن و الكافر
خرج أبو نعيم من حديث الأعمش ، عن إبراهيم ، عن علقمة ، عن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن نفس المؤمن تخرج رشحاً ، و إن نفس الكافر تسل كما تسل نفس الحمار ، و إن المؤمن ليعمل الخطيئة فيشدد عليه عند الموت ليكفر بها عنه . و إن الكافر ليعمل الحسنة فيسهل عليه عند الموت ليجزى بها .
باب ما جاء أن للموت سكرات و في تسليم الأعضاء بعضها على بعض و فيما يصير الإنسان إليه
وصف الله سبحانه و تعالى شدة الموت في أربع آيات :
الأولى : قوله الحق : و جاءت سكرة الموت بالحق .
الثانية : قوله تعالى : و لو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت .
الثالثة : قوله تعالى : فلولا إذا بلغت الحلقوم .
الرابعة : كلا إذا بلغت التراقي .
روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها : أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كانت بين يديه ركوة أو علبة فيها ماء . فجعل يدخل يديه في الماء فيمسح بهما وجهه و يقول لا إله إلا الله إن للموت سكرات ثم نصب يديه فجعل يقول : في الرفيق الأعلى حتى قبض و مالت يده .
و خرج الترمذي عنها قالت : [ ما أغبط أحداً بهون موت . بعد الذي رأيت من شدة موت رسول الله صلى الله عليه و سلم ] .
و في البخاري عنها قالت : [ مات رسول الله صلى الله عليه و سلم و إنه لبين حاقنتي و ذاقنتي . فلا أكره شدة الموت لأحد أبداً بعد النبي صلى الله عليه و سلم ] الحاقنة : المطمئن بين الترقوة و الحلق ، و الذاقنة : نقره الذقن و قال الخطابي : الذاقنة : ما تناوله الذقن من الصدر .
و ذكر أبو بكر بن أبي شيبة في مسنده عن جابر بن عبد عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : تحدثوا عن بني إسرائيل . فإنه كانت فيهم أعاجيب . ثم أنشأ يحدثنا قال : [ خرجت طائفة منهم فأتوا على مقبرة من مقابرهم فقالوا لو صلينا ركعتين و دعونا الله يخرج لنا بعض الأموات يخبرنا عن الموت قال : ففعلوا . فبينما هم كذلك إذا طلع رجل رأسه بيضاء ، أسود اللون خلا شيء ، بين عينيه أثر السجود فقال يا هؤلاء ما أردتم إلي ؟ لقد مت منذ مائة سنة فما سكنت عني حرارة الموت حتى الآن . فادعوا الله أن يعيدني كما كنت ] .
و روى أبو هدبة إبراهيم بن هدبة قال : حدثنا أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إن العبد ليعالج كرب الموت و سكرات الموت و إن مفاصله ليسلم بعضها على بعض تقول : عليك السلام تفارقني و أفارقك إلى يوم القيامة .
و ذكر المحاسبي في الرعاية : أن الله تعالى قال لإبراهيم عليه السلام : [ يا خليلي كيف وجدت الموت ؟ قال : كسفود محمى جعل في صوف رطب ، ثم جذب قال : [ أما إنا قد هونا عليك يا إبراهيم ] .
و روى أن موسى عليه السلام لما صار روحه إلى الله . قال له ربه : [ يا موسى كيف وجدت الموت ] ؟ قال : وجدت نفسي كالعصفور الحي حين يقلى على المقلى لا يموت فيستريح و لا ينجو فيطير . و روى عنه أنه قال : وجدت نفسي كشاة تسلخ بيد القصاب و هي حية . و قال عيسى بن مريم عليه السلام :[ يا معشر الحواريين ادعوا الله أن يهون عليكم هذه السكرة ] يعني سكرات الموت .
و روي : أن الموت أشد من ضرب بالسيوف و نشر بالمناشير ، و قرض بالمقاريض .
و ذكر أبو نعيم الحافظ في كتاب الحلية من حديث مكحول ، عن وائلة ابن الأسقع عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : و الذي نفسي بيده لمعاينة ملك الموت أشد من ألف ضربة بالسيف و سيأتي بكماله إن شاء الله تعالى .
و في الخبر من حديث حميد الطويل ، عن أنس بن مالك ، عن النبي صلى الله عليه و سلم أن الملائكة تكتنف العبد ، و تحبسه ، و لولا ذلك لكان يعدو في الصحاري و البراري من شدة سكرات الموت . و جاءت الرواية بأن ملك الموت عليه السلام إذا تولى الله قبض نفسه بعد موت الخلائق يقول : [ و عزتك لو علمت من سكرة الموت ما أعلم ما قبضت نفس مؤمن ] . ذكره القاضي أبو بكر بن العربي .
و عن شهر بن حوشب قال : سئل رسول الله صلى الله عليه و سلم عن الموت و شدته ؟ فقال : إن أهون الموت بمنزلة حسكة كانت في صوف . فهل تخرج الحسكة من الصوف إلا و معها الصوف ؟ قال شهر : و لما حضرت عمرو بن العاص الوفاة قال له ابنه يا أبتاه ؟ إنك لتقول لنا : ليتني كنت ألقى رجلاً عاقلاً لبيباً عند نزول الموت حتى يصف لي ما يجد . و أنت ذلك الرجل فصف لي الموت فقال : يا بني و الله كأن جنبي في تخت . و كأني أتنفس من سم إبرة . و كأن غصن شوك يجذب من قدمي إلى هامتي . ثم أنشأ يقول :
ليتني كنت قبل ما قد بدا لي في تلال الجبال أرعى الوعولا
و عن أبي ميسرة رفعه قال : [ لو أن ألم شعرة من الميت وضع على أهل السماء و الأرض لماتوا جميعاً ] و أنشدوا :
أذكر الموت و لا أرهبه إن قلبي لغليظ كالحجر
أطلب الدنيا كأني خالد و ورائي الموت يقفو بالأثر
و كفى بالموت فاعلم واعظاً لمن الموت عليه قد قدر
و المنايا حوله ترصده ليس ينجي المرء منهن المفر
و قال آخر :
بينا الفتى مرح الخطا فرح بما يسع له إذ قيل : قد مرض الفتى
إذ قيل : بات بليلة ما نامها إذ قيل : أصبح مثخناً ما يرتجى
إذ قيل : أصبح شاخصاً و موجها و معللاً . إذ قيل : أصبح قد قضى
فصل : أيها الناس : قد آن للنائم أن يستيقظ من نومه ، و حان للغافل أن يتنبه من غفلته قبل هجوم الموت بمرارة كأسه ، و قبل سكون حركاته ، و خمود أنفاسه ، و رحلته إلى قبره ، و مقامه بين أرماسه .
و روى عن عمر بن عبد العزيز أنه كتب إلى أناس من أصحابه يوصيهم فكان فيما أوصاهم به أن كتب إليهم :
[ أما بعد : فإني أوصيكم بتقوى الله العظيم ، و المراقبة له ، و اتخذوا التقوى و الورع زاداً . فإنكم في دار عما قريب تنقلب بأهلها ، و الله في عرضات القيامة و أهوالها . يسألكم عن الفتيل و النقير . فالله الله عباد الله . اذكروا الموت الذي لا بد منه ، و اسمعوا قول الله تعالى : كل نفس ذائقة الموت . و قوله عز و جل : كل من عليها فان . و قوله عز و جل : فكيف إذا توفتهم الملائكة يضربون وجوههم و أدبارهم فقد بلغني ـ و الله أعلم ـ أنهم يضربون بسياط من نار . و قال جل ذكره : قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم ثم إلى ربكم ترجعون .
و قد بلغني ـ و الله أعلم و أحكم ـ أن ملك الموت رأسه في السماء و رجلاه في الأرض و أن الدنيا كلها في يد ملك الموت كالقصعة بين يدي أحدكم يأكل منها . و قد بلغني ـ و الله أعلم و أحكم ـ أن ملك الموت ينظر في وجه كل آدمي ثلاثمائة نظرة و ستاً و ستين نظرة . و بلغني أن ملك الموت ينظر في كل بيت تحت ظل السماء ستمائة مرة . و بلغني أن ملك الموت قائم وسط الدنيا فينظر الدنيا كلها برها و بحرها و جبالها و هي بين يديه كالبيضة بين رجلي أحدكم . و بلغني أن لملك الموت أعواناً الله أعلم بهم ليس منهم ملك إلا لو أذن له أن يلتقم السموات و الأرض في لقمة واحدة لفعل . و بلغني أن ملك الموت تفزغ منه الملائكة أشد من فزع أحدكم من السبع . و بلغني أن حملة العرش إذا قرب ملك الموت من أحدهم ذاب حتى يصير مثل الشعرة من الفزع منه و بلغني أن ملك الموت ينتزع روح بني آدم من تحت عضوه و ظفره و عروقه و شعره و لا تصل الروح من مفصل إلى مفصل إلا كان أشد عليه من ألف ضربة بالسيف . و بلغني أنه لو وضع وجع شعرة من الميت على السموات و الأرض لأذابها حتى إذا بلغت الحلقوم و لي القبض ملك الموت . و بلغني أن ملك الموت إذا قبض روج مؤمن جعلها في حريرة بيضاء و مسك أذفر . و إذا قبض روح الكافر جعلها في خرقة سوداء في فخار من نار أشد نتناً من الجيف .
و في الخبر إذا دنت منية المؤمن نزل عليه أربعة من الملائكة : ملك يجذب النفس من قدمه اليمنى و ملك يجذبها من قدمه اليسرى ، و النفس تنسل انسلال القطرة من السقاء و هم يجذبونها من أطراف البنان و رؤوس الأصابع . و الكافر تنسل روحه كالسفود من الصوف المبتل . ذكره أبو حامد في كشف علوم الآخرة فمثل نفسك يا مغرور و قد حلت بك السكرات ، و نزل بك الأنين و الغمرات فمن قائل يقول : إن فلاناً قد أوصى و ماله قد احصى ، و من قائل يقول : إن فلاناً ثقل لسانه ، فلا يعرف جيرانه ، و لا يكلم إخوانه ، فكأني أنظر إليك تسمع الخطاب ، و لا تقدر على رد الجواب ، ثم تبكي ابنتك و هي كالأسيرة ، و تتضرع و تقول : حبيبي أبي من ليتمي من بعدك ؟ و من لحاجتي ؟ و أنت و الله تسمع الكلام و لا تقدر على رد الجواب و أنشدوا :
و أقبلت الصغرى تمرغ خدها على وجنتي حيناً و حيناً على صدري
و تخمش خديها و تبكي بحرقة تنادي : أبي إني غلبت على الصبر
حبيبي أبي من لليتامى تركتهم كأفراخ زغب في بعيد من الوكر ؟
فخيل لنفسك يا ابن آدم إذا أخذت من فراشك ، إلى لوح مغتسلك فغسلك الغاسل ، و ألبست الأكفان ، و أوحش منك الأهل و الجيران ، و بكت عليك الأصحاب و الإخوان ، و قال الغاسل أين زوجة فلان تحالله ؟ و أين اليتامى ترككم أبوكم فما ترونه بعد هذا اليوم أبداً ؟ و أنشدوا :
ألا أيها المغرور ما لك تلعب تؤمل آمالاً و موتك أقرب
و تعلم أن الحرص بحر مبعد سفينته الدنيا فإياك تعطب
و تعلم أن الموت ينقص مسرعاً عليك يقينا طعمه ليس يعذب
كأنك توصي و اليتامى تراهم و أمهم الثكلى تنوح و تندب
تغص بحزن ثم تلطم وجهها يراها رجال بعد ما هي تحجب
و أقبل بالأكفان نحوك قاصد و يحثى عليك الترب و العين تسكب
فصل : قول عائشة رضي الله عنها : كانت بين يديه ركوة أو علبة العلبة : قدح من خشب ضخم يحلب فيه ، قال ابن فارس في المجمل و قال الجوهري في الصحاح العلبة محلب من جلد ، و الجمع علب و علاب ، والمعلب الذي يتخذها . . .
قال الكميت يصف خيلاً :
سقينا دما القوم طوراً ، و تارة صبوحاً لإقتار الجلود المعلب
و قيل : أسفله جلد و أعلاه خشب مدور مثل إطار الغربال ، و هو الدائر به ، و قيل : هو عس يحلب فيه . و العس : القدح الضخم . و قال اللغوي أبو هلال الحسن بن عبد الله بن سهل العسكري في كتاب التلخيص له : و العلبة : قدح للأعراب مثل العس ، و العس يتخذ من جنب جلد البعير و الجمع علاب ، و قوله : إن الموت سكرات أي شذائد و سكرة الموت شدته .
فصل : قال علماؤنا رحمة الله عليهم : فإذا كان هذا الأمر قد أصاب الأنبياء و المرسلين و الأولين و المتقين فمالنا عن ذكره مشغولين ؟ و عن الاستعداد له متخلفين ؟ قل هو نبأ عظيم * أنتم عنه معرضون قالوا : و ما جرى على الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين من شدائد الموت و سكراته ، فله فائدتان .
إحداهما : أن يعرف الخلق مقدار ألم الموت و أنه باطن و قد يطلع الإنسان على بعض الموتى فلا يرى عليه حركة و لا قلقاً و يرى سهولة خروج روحه ، فيغلب على ظنه سهولة أمر الموت و لا يعرف ما الميت فيه ؟ فلما ذكر الأنبياء الصادقون في خبرهم : شدة ألمه ، مع كرامتهم على الله تعالى و تهونيه على بعضهم ، قطع الخلق بشدة الموت الذي يعانيه و يقاسيه الميت مطلقاً لإخبار الصادقين عنه ، ما خلا الشهيد قتيل الكفار على ما يأتي ذكره .
الثانية : ربما خطر لبعض الناس أن هؤلاء : أحباب الله ، و أنبياؤه و رسله ، فكيف يقاسون هذه الشدائد العظيمة ؟ و هو سبحانه قادر أن يخفف عنهم أجمعين ، كما قال في قصة إبراهيم : أما إنا قد هونا عليك . فالجواب : أن أشد الناس بلاء في الدنيا الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل كما قال نبينا عليه السلام .
خرجه البخاري و غيره ، فأحب الله أن يبتليهم تكميلاً لفضلاً لديه ، و رفعة لدرجاتهم عنده ، و ليس ذلك في حقهم نقصاً ، و لا عذاباً . بل هو كما قال ، كمال رفعة ، مع رضاهم بجميل ما يجزي الله عليهم ، فأراد الحق ، سبحانه أن يختم لهم بهذه الشدائد ، مع إمكان التخفيف و التهوين عليهم ، ليرفع منازلهم ، و يعظم أجورهم قبل موتهم .
كما ابتلى إبراهيم بالنار ، و موسى بالخوف و الأسفار ، و عيسى بالصحارى و القفاز ، و نبينا محمداً صلى الله عليه و سلم بالفقر في الدنيا و مقاتلة الكفار ، كل ذلك لرفعة في أحوالهم ، و كمال في درجاتهم ، و لا يفهم من هذا أن الله شدد عليهم أكثر مما شدد على العصاة المخلطين فإن ذلك عقوبة لهم ، و مؤاخذة على إجرامهم فلا نسبة بينه و بين هذا .
فصل : إن قال قائل : كل المخلوقات تجد هذه السكرات ؟ قيل له : قال بعض العلماء قد وجب بحكم القول الصدق ، و الكلمة الحق ، أن الكأس مر المذاق ، و إن قد ذيق و يذاق و لكن ثم فريقان ، و تقديرات و أوزان ، و إن الله سبحانه و تعالى لما انفرد بالبقاء وحده لا شريك له و أجرى سنة الهلاك و الفناء على الخلق دونه ، خالف في ذلك جل جلاله بين المخلوقات ، و فرق بين المحسوسات ، بحسب ما خالف بين المنازل و الدرجات ، فنوع أرضي حيواني . إنساني و غير إنساني و فوقه عالم روحاني و ملأ علواني رضواني ، كل يشرب من ذلك الكأس جرعته . و بغتص منه غصته ، قال الله تعالى : كل نفس ذائقة الموت .
قال أبوحامد في كتاب الكشف علوم الأخرة : و ثبت ذلك في ثلاثة مواضع من كتابه ، و إنما أراد سبحانه بالموتات الثلاث للعالمين : فالمتحيز إلى العالم الدنيوي يموت ، و المتحيز إلى العالم الملكوتي يموت ، و المتحيز إلى العالم الجبروتي يموت ، فالأول آدم و ذرتيه و جميع الحيوان على ضروبه ، و الملكوتي و هو الثاني أصناف الملائكة و الجن ، و أهل الجبروت هم المصطفون من الملائكة .
قال الله تعالى : الله يصطفي من الملائكة رسلاً و من الناس فهم كروبيون و حملة العرش و أصحاب سر دقات الجلال كما وصفهم الله في كتابه و أثنى عليهم حيث يقول و من عنده لا يستكبرون عن عبادته و لا يستحسرون * يسبحون الليل و النهار لا يفترون و هم أهل حضرة القدس المعنيون بقوله تعالى : لو أردنا أن نتخذ لهواً لاتخذناه من لدنا إن كنا فاعلين و هم يموتون على هذه المكانة من الله تعالى و القربة ، و ليس زلفاهم بمانع لهم من الموت . قال ابن قسي : و كما تفرقت الطرق بهذه العوالم كذلك تفرقت طرقت الإحساسات في اجتراع الغصص و المرارات فإحساس روحاني للروحانيات كما يجده النائم في سنته ، أو الغصة الوجيعة تغصه في نومته فيغص منها في حال رقدته و يتململ ذلك إلى حين يقتظه ، حتى إذا استيقظ لم يجده شيئاً و وجد الإنس عنده فأزال ألمه ، و وافاه أمانه و نعمه ، و إحساس علوي قدسي كما يجده الوسنان الروحانية . و هو ما لا يدركه العقل البشري إلا توهما ، و لا يبلغه التحصيل إلا تخيلاً و توسماً ، و إحساس بشري سفلي إنسي و جني ، و هو ما لا يكاد أن توصف شدائده ، و غصصه ، فكيف و قد قالوا بالغصة الواحدة منه كألف ضربة السيف فما عسى أن ينعت و يوصف و هذا الذي لا يمكن أن يعرف ؟ و الخلق أيضاً في هذا الإحساس فرق ، يختلفون باختلاف المنازل و الطرق ، فالفرقة الإسلامية في نفسها لا تجد منه غير الإسلامية ، ثم الإسلامية نفسها لا تجد منه النبوية ، كما تجد التبعية . ثم النبوية في ذاتها و مقاماتها إحساساتها تختلف على حكم الكلمة و صدق القيا باختلاف التقديم و التفضيل ، قال الله تعالى تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض ، منهم من كلم الله ، و رفع بعضهم درجات الآية . و قد نبهت الخلة الذاتية عزت سبحاتها ، و تقدست صفاتها ، على صفة ذلك عن إبراهيم و أشارت إلى تهوين الأمر عليه ، و تبين ما خفف عنه ، صلوات الله و سلامه عليه ، فقال : أما إنا قد هونا عليك يا إبراهيم و ما وصفه الحق جل جلاله بالهون فلا أهون منه ، كما ما كبره و عظمه فلا أكبر و لا أعظم منه ، و لا فرق بين أن قال : موتاً هيناً و ملكاً عظيماً كبيراً ، و قال في نعيم الجنة و إذا رأيت ثم رأيت نعيماً و ملكاً كبيراً فكما أنه لا أكبر من ملك الجنة . كذلك لا هون من موت الخلة ، و الله أعلم .
فصل : إذا ثبت ما ذكرناه . فاعلم : أن الموت هو الخطب الأفظع ، و الأمر الأشنع و الكأس التي طعمها أكره و أبشع ، و أنه الحارث الأهذم للذات و الأقطع للراحات ، و الأجلب للكريهات ، فإن أمراً يقطع أوصالك ، و يفرق أعضاءك ، و يهدم أركانك ، لهو الأمر العظيم ، و الخطب الجسيم ، و إن يومه لهو اليوم العظيم .
و يحكى أن الرشيد لما اشتد مرضه أحضر طبيباً طوسياً فارسياً و أمر أن يعرض عليه ماؤه أي بوله مع مياه كثيرة لمرضى و أصحاء ، فجعل يستعرض القوارير حتى رأى قارورة الرشيد فقال : قولوا : لصاحب هذا الماء يوصي . فإنه قد انحلت قواه ، و تداعت بنيته ، و لما استعرض باقي المياه أقيم فذهب ، فيئس الرشيد من نفسه و أنشد :
إن الطيب بطبه و دوائه لا يستطيع دفاع نحب قد أتى
ما للطبيب يموت بالداء الذي قد كان أبرأ مثله فيما مضى
مات المداوي ، و المداوى ، و الذي جلب الدواء أو باعه ، و من اشترى
و بلغه أن الناس أرجفوا بموته . فاستدعى حماراً و أمر أن يحمل عليه فاسترحت فخذاه . فقال : أنزلوني صدق المرجفون ، و دعا بأكفان فتخير منها ما أعجبه و أمر فشق له قبر أمام فراشه ثم اطلع فيه فقال : ما أغنى عني مالية هلك عني سلطانية . فمات من ليلته ، فما ظنك ـ رحمك الله ـ بنازل ينزل بك فيذهب رونقك و بهاك و يغير منظرك و رؤياك ، و يمحو صورتك و جمالك ، و يمنع من اجتماعك و اتصالك ، و يردك بعد النعمة و النضرة ، و السطوة و القدرة ، و النخوة و العزة ، إلى حالة يبارد فيها أحب الناس إليك ، و أرحمهم بك ، و أعطفهم عليك ، فيقذفك في حفرة من الأرض قريبة أنحاؤها مظلمة أرجاؤها ، محكم عليك حجرها و صيدانها ، فتحكم فيك هوامها و ديدانها ، ثم بعد ذلك تمكن منك الأعدام و تختلط بالرغام ، و تصير تراباً توطأ بالأقدام ، و ربما ضرب منك الإناء فخار ، أو أحكم بك بناء جدار ، أو طلي بك محس ما ، أو موقد نار .
كما روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه يأتي بإناء ماء ليشرب منه فأخذه بيده و نظر إليه و قال : الله أعلم كم فيك من عين كحيل ، و خذ أسيل .
و يحكى أن رجلين تنازعاً و تخاصماً في أرض فأنطلق الله عزوجل لبنة من حائط من تلك الأرض فقالت : يا هذان فيم تتنازعان ؟ و فيم تتخاصمان ؟ إني كنت ملكاً من الملوك ملكت كذا و كذا سنة ثم مت و صرت تراباً . فبقيت كذلك ألف سنة ثم أخذني خزاف ـ يعني فخاراً فعمل مني إناء فاستعملت حتى تكسرت ، ثم عدت تراباً فبقيت ألف سنة . ثم أخذني رجل فضرب مني لبنة ، فجعلني في هذا الحائط . ففيم تنازعكما و فيم تخاصمكما ؟ .
قلت : و الحكايات في هذا المعنى و الوجود شاهد بتجديد ما دثر ، و تغيير ما غير و عن ذلك أن يكون الحفر و الإخراج ، و اتخاذ الأواني و بناء الأبراج ، و لقد كنت في زمن الشباب أنا و غيري ننقل التراب على الدواب من مقبرة عندنا تسمى بمقبرة اليهود خارج قرطبة و قد اختلط بعظام من هناك و عظمهم و لحومهم و شعورهم و أبشارهم إلى الذيم يصنعون القرمد للشقف .
قال علماؤنا رضوان الله عليهم : و هذا التغير إنما يحل بجسدك ، و ينزل ببدنك لا بروحك ، لأن الروح لها حكم آخر ، و ما مضى منك فغير مضاع ، و تفرقة لا تمنع من الاجتماع ، قال الله تعالى : قد علمنا ما تنقص الأرض منهم و عندنا كتاب حفيظ و قال : فما بال القرون الأولى * قال علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي و لا ينسى .
__________________________________________________ __________
باب الموت كفارة لكل مسلم
أبو نعيم ، عن عاصم الأحول ، عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم الموت كفارة لكل مسلم . ذكره القاضي أبو بكر ابن العربي في سراج المريدين له ، و قال : فيه حديث صحيح حسن .
فصل : إنما كان الموت كفارة ، لكل ما يلقاه الميت في مرضه من الآلام و الأوجاع ، و قد قال صلى الله عليه و سلم : ما من مسلم يصيبه أذى ، من مرض فما سواه إلا حط به سيئاته كما تحط الشجرة ورقها . خرجه مسلم .
و في الموطأ عن أبي هريرة : عن رسول الله صلى الله عليه و سلم : من يرد الله به خيراً يصب منه . و في الخبر المأثور يقول الله تعالى : إني لا أخرج أحدا من الدنيا ، و أنا أريد أن أرحمه ، حتى أوفيه بكل خطيئة كان عملها : سقما في جسده . و مصيبة في أهله و ولده ، و ضيقاً في معاشه ، و إفتاراً في رزقه ، حتى أبلغ منه مثاقيل الذر فإن بقي عليه شيء شددت عليه الموت ، حتى يفضي إلى كيوم ولدته أمه .
قلت : و هذا بخلاف من لا يحبه و لا يرضاه كما في الخبر يقول الله تعالى : وعزتي و جلالي لا أخرج من الدنيا عبداً أريد أن أعذبه ، حتى أعذبه ، حتى أوفيه يكل حسنة عملها بصحة في جسده ، و سعة في رزقه ، و رغد في عيشه ، و أمن في سربه ، حتى أبلغ منه مثاقيل الذر ، فإن بقي له شيء هونت عليه الموت ، حتى يفضي إلي و ليس له حسنة يتقي بها النار .
قلت : و في مثل هذا المعنى ما خرجه أبو داود بسند صحيح فيما ذكر أبو الحسن بن الحصار عن عبيد بن خالد السلمي و كانت له صحبة عن النبي صلى الله عليه و سلم : موت الفجأة أخذة أسف للكافر ، و رواه أيضاً مرسلاً .
و روى الترمذي عن عائشة رضي الله عنها : إنها راحة للمؤمن و أخذه أسف للكافر .
و روى عن ابن عباس أن داود عليه السلام مات فجأة يوم السبت و عن زيد بن أسلم مولى عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : [ إذا بقي على المؤمن من ذنوبه شيء لم يبلغه بعمله شدد عليه الموت ليبلغ بسكرات الموت و شدائده درجته من الجنة ، و إن الكافر إذا كان قد عمل معروفاً في الدنيا ، هون عليه الموت ليستكمل ثواب معروفه في الدنيا ثم يصير إلى النار ] . ذكره أبو محمد عبد الحق .
و خرج أبو نعيم الحافظ من حديث الأعمش عن إبراهيم ، عن علقمة ، عن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : نفس المؤمن تخرج رشحاً ، و إن نفس الكافر تسل كما تسل نفس الحمار ، و إن المؤمن ليعمل الخطيئة فيشدد بها عليه عند الموت ليكفر بها عنه . و إن الكافر ليعمل الحسنة فيسهل عليه عند الموت ليجزي بها ذكره أبو محمد عبد الحق ، و ذكر ابن المبارك أن أبا الدرداء رضي الله عنه ـ قال : [ أحب الموت اشتياقاً إلى ربي ، و أحب المرض تكفيراً لخطيئتي ، و أحب الفقر تواضعاً لربي عز و جل ] .
باب لا يموت أحد و هو يحسن بالله الظن و في الخوف من الله تعالى
مسلم عن جابر قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول قبل وفاته بثلاثة أيام : لا يموتن أحدكم إلا و هو يحسن الظن بالله أخرجه البخاري .
و ذكره ابن أبي الدنيا في كتاب حسن الظن بالله و زاد : فإن قوماً قد أرادهم سوء ظنهم بالله فقال لهم تبارك و تعالى : و ذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين .
ابن ماجه ، عن أنس أن النبي صلى الله عليه و سلم دخل على شاب و هو في الموت فقال : كيف تجدك ؟ فقال : أرجو الله يا رسول الله و أخاف ذنوبي ، فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لا يجتمعان في قلب عبد مؤمن في مثل هذا الموطن إلا عطاء الله ما يرجو و أمنه مما يخاف . ذكره ابن أبي الدنيا أيضاً ، و خرجه الترمذي و قال : هذا حديث حسن غريب .
و قد روى بعضهم هذا الحديث عن ثابت عن النبي صلى الله عليه و سلم مرسلاً .
و ذكر الترمذي الحكيم في الأصل السادس و الثمانين من نوادر الأصول : حدثنا يحيى بن حبيب عن عدي قال ، حدثنا بشر المفضل عن عوف عن الحسن أنه قال : بلغني عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال : قال ربكم عز و جل : لا أجمع على عبدي خوفين و لا أجمع له أمنين . فمن خافني في الدنيا أمنته في الآخرة و من أمنني في الدنيا أخفته في الآخرة .
حدثنا أبو بكر بن سابق الأموي قال أبو مالك الجنبي عن جويبر عن الضحاك عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه و سلم فيما يذكر من مناجاة موسى عليه السلام أنه قال : يا موسى إنه لن يلقاني عبد لي في حاضر القيامة إلا فتشته عما في يديه إلا ما كان من الورعين فإني أستحييهم و أجلهم فأكرمهم فأدخلهم الجنة بغير حساب فمن استحيى من الله تعالى في الدنيا مما صنع استحيى الله تعالى من تفتيشه و سؤاله . و لم يجمع عليه حياءين ، كما لا يجمع عليه خوفين .
فصل : حسن الظن بالله تعالى ، ينبغي أن يكون أغلب على العبد عند الموت منه في حال الصحة ، و هو أن الله تعالى يرحمه و يتجاوز عنه و يغفر له و ينبغي لجلسائه أن يذكروه بذلك حتى يدخل في قوله تعالى : أنا عند ظن عبدي بي فليظن بي ما شاء .
و روى حماد بن سلمة ، عن ثابت ، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لا يموتن أحدكم حتى يحسن الظن بالله . فإن حسن الظن بالله ثمن الجنة
و روى عن ابن عمر أنه قال : [ عمود الدين و غاية مجده و ذروة سنامة : حسن الظن بالله . فمن مات منكم و هو يحسن الظن بالله : دخل الجنة مدلاً ] أي منبسطاً لا خوف عليه .
و قال عبد الله بن مسعود : [ و الله الذي لا إله إلا غيره . لا يحسن أحد الظن بالله إلا أعطاه الله ظنه و ذلك أن الخير بيده ] .
و ذكر ابن المبارك قال أخبر سفيان : أن ابن عباس قال : إذا رأيتم بالرجل الموت فبشروه ليلقي ربه و هو حسن الظن به ، و إذا كان حياً فخوفوه و قال الفضيل : الخوف أفضله من الرجاء . ما كان العبد صحيحاً فإذا نزل به الموت ، فالرجاء أفضل من الخوف .
و ذكر ابن أبي الدنيا : قال ، حدثنا يحيى بن عبد الله بن البصري . قال حدثنا سوار بن عبد الله قال حدثنا المعتمر . قال : قال أبي حين حضرته الوفاة : يا معتمر حدثني بالرخص لعلي ألقى الله و أنا أحسن الظن به .
قال : و حدثنا عمرو بن محمد الناقد . قال : حدثنا خلف بن خليفة عن حصين عن إبراهيم قال : كانوا يستحبون أن يلقنوا العبد محاسن عمله عند الموت ، حتى يحسن ظنه بربه عز و جل .
و قال ثابت البناني : كان شاب به رهق فلما نزل به الموت انكبت عليه أمه و هي تقول : يا بني قد كنت أحذرك مصرعك هذا ، قال : يا أماه إن لي رباً كثير المعروف ، و إني لأرجو اليوم أن لا يعدمني بعض معروفه ، فقال ثابت : فرحمه الله يحسن ظنه بالله في حاله تلك .
و قال عمر بن ذر يوماً في كلامه ـ و عنده ابن أبي داود و أبو حنيفة ـ أتعذبنا و في أجوافنا التوحيد ؟ لا أراك تفعل . اللهم اغفر لمن لم يزل على مثل حال السحرة في الساعات التي غفرت لهم ، فإنهم قالوا : آمنا برب العالمين فقال أبو حنيفة : رحمك الله القصص بعدك حرام . و كان يحيى بن زكريا إذا لقي عيسى بن مريم عليهما السلام : عبس ، و إذا لقيه عيسى ، تبسم ، فقال له عيسى : تلقاني عابساً كأنك آيس ؟ فقال له يحيى : تلقائي ضاحكاً كأنك آمن ؟ فأوحى الله تبارك و تعالى إليهما : إن أحبكما إلي أحسنكما ظناً بي ذكره الطبري .
و قال زيد بن أسلم : يؤتي بالرجل يوم القيامة ، فيقال : انطلقوا به إلى النار فيقول : يا رب فأين صلاتي و صيامي ؟ فيقول الله تعالى : اليوم أقنطك من رحمتي كما كنت تقنط عبادي من رحمتي .
و في التنزيل : قال : و من يقنط من رحمة ربه إلا الضالون و سيأتي لهذا الباب مزيد بيان في باب سعة رحمة الله و عفوه يوم القيامة ، إن شاء الله تعالى .
__________________________________________________ __________
باب تلقين الميت لا إله إلا الله
مسلم عن أبي سعيد الخدري . قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لقنوا موتاكم لا إله إلا الله . و ذكر ابن أبي الدنيا عن زيد بن أسلم قال : قال عثمان بن عفان : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إذا احتضر الميت فلقنوه لا إله إلا الله فإنه ما من عبد يختم له بها موته إلا كانت زاده إلى الجنة ، و قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : احضروا موتاكم و لقنوهم : لا إله إلا الله و ذكروهم فإنهم يرون ما لا ترون .
و ذكر أبو نعيم من حديث مكحول عن إسماعيل بن عياش بن أبي معاذ عتبة ابن حميد عن مكحول عن وائلة بن الأسقع عن النبي صلى الله عليه و سلم : احضروا موتاكم و لقنوهم لا إله إلا الله و بشروهم بالجنة فإن الحكيم من الرجال يتحير عند ذلك المصرع و إن الشيطان أقرب ما يكون من ابن آدم عند ذلك المصرع . و الذي نفسي بيده لمعانية ملك الموت أشد من ألف ضربة السيف ، و الذي نفسي بيده لا تخرج نفس عبد من الدنيا حتى يتألم كل عرق منه على حياله . غريب من حديث مكحول لم نكبته إلا من حديث إسماعيل .
فصل : قال علماؤنا : تلقين الموتى هذه الكلمة سنة مأثورة عمل بها المسلمون . و ذلك ليكون آخر كلامهم لا إله إلا الله فيختم له بالسعادة ، و ليدخل في عموم قوله عليه السلام من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة . أخرجه أبو داود من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه ، صححه أبو محمد عبد الحق ، و لينبه المحتضر على ما يدفع به الشيطان ، فإنه يتعرض للمحتضر ليفسد عليه عقيدته ، على ما يأتي .
فإذا تلقهنا المحتضر و قالها مرة واحدة فلا تعاد عليه ليلاً بفجر ، و قد كره أهل العلم الإكثار من التلقين ، و الإلحاح عليه إذا هو تلقنها أو فهم ذلك عنه . قال ابن المبارك : لقنوا الميت لا إله إلا الله فإذا قالها فدعوه . قال أبو محمد عبد الحق : و إنما ذلك لأنه يخاف عليه إذا لج عليه بها أن يتبرم و يضجر ، و يثقلها الشيطان عليه ، فيكون سبباً لسوء الخاتمة . و كذلك أمر ابن المبارك أن يفعل به . قال الحسن بن عيسى : قال لي ابن المبارك : لقني ـ يعني الشهادة ـ و لا تعد علي إلا أن أتكلم بكلام ثان ، و المقصود أن يموت الرجل و ليس في قلبه إلا الله عز و جل لأن المدار على القلب ، و عمل القلب هو الذي ينظر فيه ، و تكون النجاة به . و أما حركة اللسان دون أن تكون ترجمة عما في القلب فلا فائدة فيها ، و لا عبر عندها .
قلت : و قد يكون التلقين بذكر الحديث عند الرجل العالم كما ذكر أبو نعيم أن أبا زرعة كان في السوق و عنده أبو حاتم ، و محمد بن سلمة . و المنذر بن شاذان و جماعات من العلماء ، فذكروا حديث التلقين فاستحيوا من أبي زرعة فقالوا : يا أصحابنا تعالوا نتذاكر الحديث . فقال محمد بن سلمة : حدثنا ضحاك بن مخلد ، حدثنا أبو عاصم ، قال حدثنا عبد الحميد بن جعفر عن صالح بن أبي غريب و لم يجاوزه . و قال أبو حاتم : حدثنا بندار ، حدثنا أبو عاصم ، عن عبد الحميد بن جعفر ، عن صالح بن أبي غريب و لم يجاوزه و الباقوت سكوت . فقال أبو زرعة و هو في السوق : حدثنا أبو عاصم عن عبد الحميد بن جعفر عن صالح بن أبي غريب ، عن كثير بن مرة الحضرمي ، عن معاذ بن جبل قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة و في رواية حرمه الله على النار و توفي رحمه الله .
و يروى عن عبد الله بن شبرمة أنه قال : دخلت مع عامر الشعبي على مريض نعوده فوجدناه لما ، و رجل يلقنه الشهادة و يقول له : لا إله إلا الله و هو يكثر عليه فقال له الشعبي . ارفق به ، فكلم المريض و قال : إن تلقني أو لا تلقني . فإني لا أدعها ثم قرأ و ألزمهم كلمة التقوى و كانوا أحق بها و أهلها فقال الشعبي الحمد لله الذي نجى صاحبنا هذا . و قيل للجنيد رحمه الله عند موته : قل لا إله إلا الله فقال ما نسيته فأذكره .
قلت : لا بد من تلقين الميت ، و تذكيره الشهادة ، و إن كان على غاية من التيقظ فقد ذكر أبو نعيم الحافظ من حديث مكحول عن وائلة بن الأسقع عن النبي صلى الله عليه و سلم : احضروا موتاكم و لقنوهم : لا غله إلا الله ، و بشروهم بالجنة ، فإن الحكيم من الرجال و النساء يتحير عند ذلك المصرع ، و إن الشيطان أقرب من ابن آدم عند ذلك المصرع و الذي نفسي بيده لمعانية ملك الموت أشد من ألف ضربة بالسيف ، و الذي نفسي بيده لا تخرج نفس عبد من الدنيا حتى يتألم كل عضو منه على حياله .
و روي عن أبي هريرة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : حضر ملك الموت رجلاً ، قال : فنظر في قلبه فلم يجد فيه شيئاً ، ففك لحييه فوجد طرف لسانه لاصقاً بحنكه يقول لا إله إلا الله فغفر له بكلمة الإخلاص .
ذكر ابن أبي الدنيا في كتاب المحتضرين بإسناده . و خرجه الطبراني بمعناه و سيأتي في آخر أبواب الجنة إن شاء الله .
باب من حضر الميت فلا يلغو و ليتكلم بخير و كيف الدعاء للميت إذا مات و في تغميضه
مسلم عن أم سلمة رضي الله عنه قالت : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إذ حضرتم المريض أو الميت فقولوا : خيراً . فإن الملائكة يؤمنون على ما تقولون . قالت : فلما مات أبو سلمة أتيت النبي صلى الله عليه و سلم فقلت يا رسول الله : إن أبا سلمة قد مات فقال : قولي : اللهم اغفر لي و له و أعقبني منه عقبى حسنة قالت : فقلت . فأعقبني الله من هو خير منه : رسول الله صلى الله عليه و سلم .
و عنها قالت : دخل رسول الله صلى الله عليه و سلم على أبي سلمة و قد شق بصره فأغمضه ثم قال : إن الروح إذا قبض تبعه البصر فضج ناس من أهله ، فقال : لا تدعوا على أنفسكم إلا بخير فإن الملائكة يؤمنون على ما تقولون ثم قال : اللهم اغفر لأبي سلمة و ارفع درجته في المهديين ، و اخلفه في عقبه في الغابرين ، و اغفر لنا و له يا رب العالمين ، و افسح له في قبره ، و نور له فيه .
فصل : قال علماؤنا : قوله عليه السلام : إذا حضرتم المريض أو الميت فقولوا خيراً أمر ندب و تعليم بما يقال عند المريض أو الميت ، و إخبار بتأمين الملائكة على دعاء من هناك ، و لهذا استحب العلماء : أن يحضروا الميت الصالحون ، و أهل الخير حالة موته ليذكروه ، و يدعوا له و لمن يخلفه و يقولوا خيراً فيجتمع دعاؤهم و تأمين الملائكة فينتفع بذلك الميت و من يصاب به و من يخلفه .
باب منه و ما يقال عند التغميض
ابن ماجه . عن شداد بن أوس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إذا حضرتم مؤتاكم فأغمضوا البصر فإن البصر يتبع الروح ، و قولوا خيراً فإن الملائكة تؤمن على ما قال أهل الميت . و ذكر الخرائطي أبو بكر محمد بن جعفر قال : حدثنا أبو موسى عمران بن موسى قال ، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة . قال حدثنا إسماعيل ابن علية عن هشام بن حسان عن حفصة بنت سيرين عن أم الحسن قالت : كنت عند أم سلمة فجاءها إنسان فقال ، فلان بالموت فقالت لها انطلقي فإذا احتضر فقولي السلام على المرسلين و الحمد لله رب العالمين . و خرج من حديث سفيان الثوري عن سليمان التيمي عن بكر ابن عبد الله المزني قال : إذا غمضت الميت فقل بسم الله و على ملة رسول الله صلى الله عليه و سلم و سبح . ثم تلا سفيان و الملائكة يسبحون بحمد ربهم قال أبو داود : تغميض الميت إنما هو بعد خروج الروح . سمعت محمد ابن أحمد المقري قال سمعت أبا ميسرة ، و كان رجلاً عابداً يقول : غمضت جعفر المعلم و كان رجلاً عاقلاً في حالة الموت فرأيته في منامي يقول : أعظم ما كان علي تغميضك قبل أن أموت .
__________________________________________________ __________
باب ما جاء أن الميت يحضر الشيطان عند موته و جلساؤه في الدنيا و ما يخاف من سوء الخاتمة
روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أن العبد إذا كان عند الموت قعد عنده شيطانان الواحد عن يمينه و الآخر عن شماله ، فالذي عن يمينه على صفة أبيه ، يقول له : يا بني إني كنت عليك شفيقاً و لك محباً ، و لكن مت على دين النصارى فهو خير الأديان ، و الذي على شماله على صفة أمه ، تقول له : يا بني إنه كان بطني لك وعاء ، و ثديي لك سقاء ، و فخذي لك وطاء ، و لكن مت على دين اليهود و هو خير الأديان ، ذكره أبو الحسن القابسي في شرح رسالة ابن أبي زيد له ، و ذكر معناه أبو حامد في كتاب كشف علوم الآخرة ، و إن عند استقرار النفس في التراقي و الارتفاع تعرض عليه الفتن و ذلك أن إبليس قد أنفذ أعوانه إلى هذا الإنسان خاصة و استعملهم عليه و وكلهم به ، فيأتون المرء و هو على تلك الحال فيتمثلون له في صورة من سلف من الأحباب الميتين الباغين له النصح في دار الدنيا ، كالأب و الأم و الأخ و الأخت و الصديق الحميم ، فيقولون له : أنت تموت يا فلان و نحن قد سبقناك في هذا الشأن فمت يهودياً فهو الدين المقبول عند الله تعالى ، فإن انصرم عنهم و أبي ، جاءه آخرون و قالوا له : مت نصرانياً فإنه دين المسيح و قد نسخ الله به دين موسى و يذكرون له عقائد كل ملة ، فعند ذلك يزيغ الله من يريد زيغه و هو معنى قوله تعالى : ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا و هب لنا من لدنك رحمة أي لا تزغ قلوبنا عند الموت و قد هديتنا من قبل هذا زماناً ، فإذا أراد الله بعبده هداية و تثبيتاً جاءته الرحمة ، و قيل : هو جبريل عليه السلام فيطرد عنه الشياطين و يمسح الشحوب عن وجهه فيبتسم الميت لا محالة ، و كثير من يرى متبسماً في هذا المقام فرحاً بالبشير الذي جاءه من الله تعالى فيقول : يا فلان أما تعرفني ؟ أنا جبريل و هؤلاء أعداؤك من الشياطين مت على الملة الحنيفية و الشريعة الجليلة . فما شيء أحب إلى الإنسان و أفرح منه بذلك الملك ، و هو قوله تعالى : و هب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب ثم يقبض عند الطعنة على ما يأتي .
و قال عبد الله بن أحمد بن حنبل : حضرت وفاة أبي أحمد ، و بيدي الخرقة لأشد لحييه ، فكان يغرق ثم يفيق و يقول بيده : لا بعد لا بعد . فعل هذا مراراً فقلت له : يا أبت أي شيء ما يبدو منك ؟ فقال : إن الشيطان قائم بحذائي عاض على أنامله يقول : يا أحمد فتني و أنا أقول لا . بعد لا . حتى أموت .
قلت : و قد سمعت شيخنا الإمام أبا العباس أحمد بن عمر القرطبي بثغر الإسكندرية يقول : حضرت أخا شيخنا أبي جعفر أحمد بن محمد بن محمد القرطبي بقرطبة و قد احتضر . فقيل له : قل : لا إله إلا الله ، فكان يقول : لا . لا . فلما أفاق ذكرنا له ذلك فقال : أتاني شيطانان عن يميني و عن شمالي . يقول أحدهما : مت يهودياً فإنه خير الأديان ، و الآخر يقول : مت نصرانياً فإنه خير الأديان فكنت أقول لهما : لا لا إلي تقولان هذا ؟ و قد كتبت بيدي في كتاب الترمذي و النسائي عن النبي صلى الله عليه و سلم إن الشيطان يأتي أحدكم عند موته فيقول : مت يهودياً مت نصرانياً فكان الجواب لهما لا لكما .
قلت : و مثل هذا عن الصالحين كثير يكون الجواب للشيطان لا لمن يلقنه الشهادة ، و قد تصفحت كتاب الترمذي أبي عيسى ، و سمعت جميعه ، فلم أقف على هذا الحديث فيه ، فإن كان في بعض النسخ فالله أعلم .
و أما كتاب النسائي فسمعت بعضه و كان عندي كثير منه . فلم أقف عليه و هو نسخ . فيحتمل أن يكون في بعضها . و الله أعلم .
و روى ابن المبارك و سفيان عن ليث عن مجاهد قال : ما من ميت إلا تعرض عليه أهل مجالسه الذين كان يجالس ، إن كان أهل لهو فأهل لهو ، و إن كانوا أهل ذكر فأهل ذكر .
و قال الربيع بن شبرة بن معبد الجهني و كان عابداً بالبصرة : أدركت الناس بالشام و قيل لرجل : يا فلان قل : لا إله إلا الله قال : اشرب و اسقني ، و قيل لرجل بالأهواز يا فلان قل : لا إله إلا الله فجعل يقول : ده يازده دوازده تفسيره : عشرة ، أحد عشرة ، اثنا عشر . كان هذا الرجل من أهل العمل و الديوان ، فغلب عليه الحساب و الميزان . ذكر هذا التفسير أبو محمد عبد الحق . قال الربيع : و قيل لرجل ها هنا بالبصرة يا فلان قل : لا إله إلا الله فجعل يقول :
يا رب قائلة يوماً و قد لغبت أين الطريق إلى حمام منجاب
قال الفقيه أبو بكر أحمد بن سليمان بن الحسن النجاد : هذا رجل قد استدلته امرأة إلى الحمام ، فدلها إلى منزله فقاله عند الموت .
و ذكر أبو محمد عبد الحق هذه الحكاية ، في كتاب العاقبة له فقال : و هذا الكلام له قصة ، و ذلك أن رجلاً كان واقفاً بإزاء داره ، و كان بابه يشبه باب حمام فمرت به جارية لها منظر و هي تقول : أين الطريق إلى حمام منجاب ؟ فقال لها : هذا حمام منجاب . و أشار إلى داره فدخلت الدار و دخل وراءها ، فلما رأت نفسه معه في دار و ليس بحمام علمت أنه خدعها أظهرت له البشر و الفرح باجتماعها معه على تلك الخلوة و في تلك الدار و قالت له : يصلح معنا ما نطيب به عيشنا و تقر به أعيننا فقال لها : الساعة آتيك بكل ما تريدين و بكل ما تشتهين ، فخرج و تركها في الدار و لم يقفلها ، و تركها محلولة على حالها و مضى ، فأخذ ما يصلح لهما و رجع ، و دخل الدار فوجدها قد خرجت و ذهبت و لم يجد لها أثراً ، فهام الرجل بها و أكثر الذكر لها و الجزع عليها و جعل يمشي في الطرق و الأزقة و هو يقول :
يا رب قائلة يوماً قد لغبت أين الطريق إلى حمام منجاب
و إذا بجارية تجاوبه من طاق و هي تقول :
هلا جعلت لها لما ظفرت بها حرزاً على الدار أو قفلاً على الباب
فزاد هيمانه و اشتد هيجانه ، و لم يزل كذلك حتى كان من أمره ما ذكر . فنعوذ بالله من المحن و الفتن .
قلت : و مثل هذا في الناس كثير ممن غلب عليه الاشتغال بالدنيا و الهم بها أو سبب من أسبابها ، حتى لقد حكي لنا أن بعض السماسرة جاء عنده الموت فقيل له : قل : لا إله إلا الله . فجعل يقول : ثلاثة و نصف أربعة و نصف . غلبت عليه السمسرة .
و لقد رأيت بعض الحساب و هو في غاية المرض ، يعقد بأصابعه و يحسب . و قيل لآخر : قل : لا إله إلا الله فجعل يقول : الدار الفلانية أصلحوا فيها كذا و الجنان الفلاني اعملوا فيها كذا . و قيل لآخر : قل : لا إله إلا الله فجعل يقول : عقلك الحمارة و قيل لآخر : قل : لا إله إلا الله فجعل يقول : البقرة الصفراء ، غلب عليه حبها و الاشتغال بها . نسأل الله السلامة و الممات على الشهادة بمنه و كرمه .
و لقد حكى ابن ظفر في كتاب النصائح له قال : كان يونس بن عبيد [ رحمه الله تعالى ـ بزازاً ، و كان لا يبيع في طرفي النهار و لا في يوم غيم ، فأخذ يوماً ميزانه فرضه بين حجرين فقيل له : هلا أعطيته الصانع فأصلح فساده ؟ فقال : لو علمت فيه فساداً لما أبقيت من مالي قوت ليلة . قيل له : فلم كسرته ؟ قال : حضرت الساعة رجلاً احتضر فقلت له : قل : لا إله إلا الله فامتعض ، فألححت عليه فقال : ادع الله لي فقال : هذا لسان الميزان على لساني يمنعني من قولها . قلت : أفما يمنعك إلا من قولها ؟ فقال : نعم . قلت : و ما كان عملك به ؟ قال : ما أخذت و لا أعطيت به إلا حقاً في علمي ، غير أني كنت أقيم المدة لا أفتقده و لا أحتبره . فكان يونس بعد ذلك يشترط على من يبايعه أن يأتي بميزان و يزن بيده و إلا لم يبايعه .
باب ما جاء في سوء الخاتمة و ما جاء أن الأعمال بالخواتيم
مسلم عن أبي هريرة عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : إن الرجل ليعمل الزمان الطويل يعمل أهل الجنة ثم يختم له عمله بعمل أهل النار ، و إن الرجل ليعمل الزمان الطويل بعمل أهل النار ثم يختم له بعمل أهل الجنة .
و في البخاري عن سهل بن سعد ، عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إن العبد ليعمل عمل أهل النار و إنه من أهل الجنة ، و يعمل عمل أهل الجنة و إنه من أهل النار ، و إنما الأعمال بالخواتيم .
قال أبو محمد عبد الحق : اعلم أن سوء الخاتمة ـ أعاذنا الله منها ـ لا تكون لمن استقام ظاهره و صلح باطنه ، ما سمع بهذا و لا علم به ـ الحمد لله ـ و إنما تكون لمن كان له فساد في العقل ، أو إصرار على الكبائر ، و إقدام على العظائم . فربما غلب ذلك عليه حتى ينزل به الموت قبل التوبة ، فيصطلمه الشيطان عند تلك الصدمة ، و يختطفه عند تلك الدهشة ، و العياذ بالله ، ثم العياذ بالله ، أو يكون ممن كان مستقيماً ، ثم يتغير عن حاله و يخرج عن سننه ، و يأخذ في طريقه ، فيكون ذلك سبباً لسوء خاتمه و شؤم عاقبته ، كإبليس الذي عبد الله فيما يروى ثمانين ألف سنة ، و بلعام بن باعوراء الذي آتاه الله آياته فانسلخ منها بخلوده إلى الأرض ، و اتباع هواه ، و برصيصا العابد الذي قال الله في حقه كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر .
و يروى : أنه كان بمصر رجل ملتزم مسجداً للأذان و الصلاة ، و عليه بهاء العبادة و أنوار الطاعة ، فرقي يوماً المنارة على عادته للأذان ، و كان تحت المنارة دار لنصراني ذمي ، فاطلع فيها فرأى ابنة صاحب الدار ، فافتتن بها و ترك الأذان ، و نزل إليها و دخل الدار فقالت له : ما شأنك ما تريد ؟ فقال : أنت أريد . قالت : لماذا ؟ قال لها : قد سلبت لبي و أخذت بمجامع قلبي . قالت : لا أجيبك إلى ريبة . قال لها : أتزوجك . قالت له : أنت مسلم و أنا نصرانية و أبي لا يزوجني منك قال لها : أتنصر . قالت : إن فعلت أفعل . فتنصر ليتزوجها ، و أقام معها في الدار . فلما كان في أثناء ذلك اليوم رقي إلى سطح كان في الدار فسقط منه فمات ، فلا هو بدينه و لا هو بها . فنعوذ بالله ثم نعوذ بالله من سوء العاقبة و سوء الخاتمة .
و يروى أن رجلاً علق بشخص و أحبه ، فتمنع عنه و اشتد نفاره فاشتد كلف البائس إلى أن لزم الفراش ، فلم تزل الوسائط تمشي بينهما حتى وعد بأن يعود ، فأخبر بذلك ففرح و اشتد فرحه و سروره ، و انجلى عنه بعض ما كان يجده ، فلما كان في بعض الطريق رجع و قال : و الله لا أدخل مداخل الريب ، و لا أعرض بنفسي لمواقع التهم فأخبر بذلك البائس المسكين فسقط في يده ، و رجع إلى أسوأ ما كان به و بدت علامات الموت و أمارته عليه .
قال الراوي : فسمعته يقول و هو في تلك الحال :
سلام يا راحة العليل و برد ذل الدنف النحيل
رضاك أشهى إلى فؤادي من رحمة الخالق الجليل
قال : فقلت له : يا فلان اتق الله تعالى فقال : قد كان ما كان . فقمت عنه فما جاوزت باب داره حتى سمعت صيحة الموت قد قامت عليه . فنعوذ بالله من سوء العاقبة و شؤم الخاتمة .
قال المؤلف رحمه الله : روى البخاري عن سالم عن عبد الله قال : كان كثيراً ما كان النبي يحلف : لا و مقلب القلوب و معناه يصرفها أسرع من مر الريح على اختلاف في القبول و الرد و الإرادة و الكراهية و غير ذلك من الأوصاف . و في التنزيل و اعلموا أن الله يحول بين المرء و قلبه قال مجاهد : المعنى يحول بين المرء و عقله حتى لا يدري ما يصنع . بيانه : إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أي عقل ، و اختار الطبري أن يكون ذلك إخباراً من الله تعالى بأنه أملك لقلوب العباد منهم و أنه يحول بينهم و بينها إذا شاء ، حتى لا يدرك الإنسان شيئاً إلا بمشيئة الله عز و جل .