عنوان الموضوع : الفِطْنَة والذَّكاء -شريعة اسلامية
مقدم من طرف منتديات نساء الجزائر

الفِطْنَة والذَّكاء




بسم الله الرحمن الرحيم
معنى الفِطْنَة والذَّكاء لغةً واصطلاحًا

معنى الفِطْنَة لغةً:
أصل هذه المادة يدلُّ على ذكاءٍ وعلم بشيء. والفِطْنَة والفَطَانَة كالفهم، وهي ضِدُّ الغَباوة، ورجل فَطِنٌ: بَيِّنُ الفِطْنَة، وفَطُنَ -بالضم- إذا صارت الفَطَانَة له سجيَّة، ورجل فَطِنٌ بخصومته، عالم بوجوهها حاذق، ويتعدَّى بالتَّضعيف، فيقال: فَطَّنتُهُ للأمر

معنى الفِطْنَة اصطلاحًا:
قال العسكري: (الفِطْنَة: العلم بالشَّيء من وجه غامض) .
وقال الرَّاغب: (الفِطْنَة: سرعة إدراك ما يُقْصد إشكاله) .
وقال الكفوي: (الفِطْنَة: التَّنَـبُّه للشَّيء الذي يُقْصد معرفته) .
معنى الذَّكاء لغةً:
الذَّكاء: سُرْعة الفِطْنَة، مِنْ قولك: قلب ذَكِي وصَبِي ذكِي، إذا كان سريعَ الفِطْنَة، وقد ذَكِيَ -بالكسر- يَذْكَى ذَكًا. وَيُقَال: ذَكا يَذْكُو ذَكاءً، وذَكُوَ فهو ذكِيٌّ .
معنى الذَّكاء اصطلاحًا:
قال المناوي: (الذَّكاء: سرعة الإدراك، وحِدَّة الفهم . .

الفرق بين الفِطْنَة والذَّكاء

قال العسكري: (الذَّكاء تمام الفِطْنَة، من قولك: ذَكَت النَّار إذا تمَّ اشتعالها، وسُمِّيت الشَّمس ذكاءً؛ لتمام نورها. والتَّذكية: تمام الذَّبح، ففي الذَّكاء معنى زائدٌ على الفِطْنَة) .

الفرق بين الفِطْنَة والصِّفات الأخرى

- الفرق بين الفِطْنَة، والعِلم، والحِذْق، والكَيْس:

قال العسكري: (الفِطْنَة: هي التَّنبُّه على المعنى، وضدُّها: الغفلة، ورجل مغفَّلٌ: لا فِطْنَة له. وهي الفِطْنَة والفَطَانَة، والطَّبانة مثلها، ورجل طَبِنٌ: فَطِنٌ. ويجوز أن يقال: إنَّ الفِطْنَة ابتداء المعْرِفة من وجه غامض، فكلُّ فِطْنَة علمٌ، وليس كلُّ علمٍ فِطْنَةً، ولما كانت الفِطْنَة عِلْمًا بالشَّيء من وجه غامض، لم يَجُز أن يقال: الإنسان فَطَن بوجود نفسه، وبأنَّ السَّماء فوقه) .
وأما (الكَيْس: هو سرعة الحركة في الأمور، والأخذ في ما يعني منها دون ما لا يعني، يقال: غلام كَيِّسٌ، إذا كان يُسْرع الأَخْذ في ما يؤمر به، ويترك الفُضُول، وليس هو من قبيل العلوم. والحِذْق أصله: حِدَّة القَطع، يقال: حَذَقَه، إذا قطعه. وقولهم: حَذَقَ الصَّبيُّ القرآن، معناه: أنَّه بلغ آخره، وقطع تعلُّمه، وتناهى في حفظه. وكلُّ حَاذِق بصناعة، فهو الذي تناهى فيها، وقطع تعلُّمها، فلمَّا كان الله تعالى لا توصف معلوماته بالانقطاع، لم يَجُز أن يُوصف بالحِذْق .
- الفرق بين الفِطْنَة والنَّفَاذ:
قال العسكري: (أنَّ النَّفَاذ أصله في الذَّهاب، يقال: نَفَذ السَّهم، إذا ذَهَب في الرَّمِيَّة، ويُسمَّى الإنسان نافذًا، إذا كان فِكْره يبلغ حيث لا يبلغ فِكْر البَلِيد، ففي النَّفَاذ معنى زائد على الفِطْنَة، ولا يكاد الرَّجل يُسمَّى نافذًا، إلا إذا كَثُرت فِطْنَته للأشياء، ويكون خرَّاجًا ولَّاجًا في الأمور) .
الفِطْنَة في الكتاب والسُّنَّة

أولًا: في القرآن الكريم

- قال الله -تعالي-: وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُم مِّن بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ [الأنبياء: 78-81].
- عن ابن مسعود في قوله: وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ قال: كَرْمٌ قد أنبتت عَنَاقيده، فأفسدته. قال: فقضى داود بالغنم لصاحب الكَرْم، فقال سليمان: غير هذا يا نبي الله! قال: وما ذاك؟ قال: تَدْفَع الكَرْم إلى صاحب الغنم، فيقوم عليه حتى يعود كما كان، وتدفع الغنم إلى صاحب الكَرْم، فيصيب منها، حتى إذا كان الكَرْم كما كان، دفعت الكَرْم إلى صاحبه، ودفعت الغنم إلى صاحبها، فذلك قوله: فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ .
- قَرَأَ الحسن: (وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا فحَمَد سليمان، ولم يَلُم داود، ولولا ما ذكر الله من أمر هذين، لرأيت أنَّ القضاة هلكوا، فإنَّه أثنى على هذا بعلمه، وعذر هذا باجتهاده) .
- وقال ابن الجوزي: (كان لسليمان من الفِطْنَة ما بان بها الصَّواب في حُكْمه دون حُكْم أبيه في قصَّة الحرث وغيره، قال الله عزَّ وجلَّ: فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ) .


>>>>> ردود الأعضـــــــــــــــــــاء على الموضوع <<<<<
==================================


ثانيًا: في السنة النبوية

- عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: ((خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم النَّاس، وقال: إنَّ الله خيَّر عبدًا بين الدُّنْيا وبين ما عنده، فاختار ذلك العبد ما عند الله. قال: فبكى أبو بكر، فعجبنا لبكائه أن يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عبد خُيِّر، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المخَيَّر، وكان أبو بكر أعلمنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنَّ أمنَّ النَّاس علي في صحبته وماله أبو بكر، ولو كنت متخذًا خليلًا -غير ربِّي- لاتَّخذت أبا بكر، ولكن أخوة الإسلام ومودَّته. لا يبقين في المسجد باب إلا سُدَّ، إلا باب أبي بكر)) .
قال ابن الجوزي: (،هذا الحديث قد دلَّ على فِطْنَة أبي بكر إذْ عَلِم أنَّ المخَيَّر هو رسول الله صلى الله عليه وسلم) .
- عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ من الشَّجر شجرة لا يسقط ورقها، وإنَّها مَثَل المسلم، فحدِّثوني ما هي؟ فوقع النَّاس في شجر البوادي، قال عبد الله: ووقع في نفسي أنَّها النَّخلة، فاستحييت. ثم قالوا: حدِّثنا ما هي يا رسول الله؟ قال: فقال: هي النَّخلة. قال: فذكرت ذلك لعمر. قال: لأن تكون قلت: هي النَّخلة، أحبُّ إليَّ من كذا وكذا)) .
- عن أمِّ سلمة رضي الله عنها: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إنَّكم تختصمون إليَّ، ولعلَّ بعضكم أَلْحَن بحجَّته من بعض، فمن قضيت له بحقِّ أخيه شيئًا، بقوله: فإنَّما أقطع له قطعة من النَّار فلا يأخذها)) .
قال ابن القيِّم: (اللَّحن ضربان: صواب وخطأ. فلحن الصَّواب نوعان، أحدهما: الفِطْنَة. ومنه الحديث: ((ولعلَّ بعضكم أن يكون أَلْحَن بحجَّته من بعض)) .
وقال المناوي: (أَلْحَن -بفتح الحاء-: الفَطَانَة، أي: أَبْلغ وأَفْصح وأعلم في تقرير مقصوده، وأَفْطن ببيان دليله، وأقدر على الــبَرْهنة على دفع دعوى خصمه، بحيث يُظنُّ أنَّ الحقَّ معه، فهو كاذب، ويُحْتمل كونه من اللَّحن، وهو الصَّرْف عن الصَّواب، أي: يكون أَعْجز عن الإِعْرَاب بحجَّته من بعض) .

فوائد الفِطْنَة


1- أنَّها تدلُّ العبد على حكم الله وسننه الشَّرعية والكونيَّة، فتبصِّره بها، كما أنَّها تدعوه إلى التَّفكر في آلاء الله، فيزداد خشوعًا لله وتعظيمًا له، وإيمانًا ويقينًا به.
قال علي رضي الله عنه: (اليقين على أربع شعب: تبصرة الفِطْنَة، وتأويل الحِكْمة، ومعرفة العبرة، وسنَّة الأولين، فمن تبصَّر الفِطْنَة، تأوَّل الحِكْمة، ومن تأوَّل الحِكْمة عرف العبرة، ومن عرف العبرة فكأنَّما كان في الأوَّلين) .
2- الفطنة من أسباب السلامة والخروج من المآزق.
3- أنَّها تدعو إلى فعل صنائع المعروف، وتقديم الفضل إلى محتاجيه:
قال الأبشيهي: (يُستدلُّ على عقل الرَّجل بأمور متعدِّدة منها: ميله إلى محاسن الأخلاق، وإعراضه عن رذائل الأعمال، ورغبته في إسداء صنائع المعروف، وتجنُّبه ما يكسبه عارًا، ويورثه سوء السُّمعة) .
ويقول الرَّازي: (العقل يدعو إلى الله تعالى والهوى يدعو إلى الشَّيطان، ثمَّ إنَّ الرُّوح أخرج الفِطْنَة إعانة للعقل، فأخرج الشَّيطان في مقابلة الفِطْنَة الشَّهوة، فالفِطْنَة توقفك على معايب الدُّنْيا، والشَّهوة تحركك إلى لذات الدُّنْيا، ثمَّ إنَّ الرُّوح أمدَّ الفِطْنَة بالفكرة لتقوى الفِطْنَة بالفكرة) .
4- الفطن ينتفع بفطنته، وينتفع بها غيره، ويفيدون منها.
5- ومن فوائدها وفضائلها -في نفس الوقت-: أنَّها ميَّزت هذه الأمَّة عن سواها، قال ابن الجوزي: (اعلم أنَّ فضيلة هذه الأمَّة على الأمم المتقدِّمة، وإنْ كان ذلك باختيار الحقِّ لها وتقديمه إيَّاها، إلَّا أنَّه جعل لذلك سببًا، كما جعل سبب سجود الملائكة لآدم علمه بما جهلوا، فكذلك جعل لتقديم هذه الأمَّة سببًا هو الفِطْنَة والفهم واليقين وتسليم النُّفوس) .
ولا يعني هذا أنَّ هذه الأمَّة اختصت بالفِطْنَة دون غيرها من الأمم، وإنَّما المقصود هو: أنَّ الله حباهم من الفِطْنَة ما يميِّزون به بين الحقِّ والباطل، والخير والشَّرِّ، والهداية والضَّلال.
7- هي مقوِّم من مقوِّمات الشَّخصية النَّاجحة، فقد يتمتَّع الرَّجل بالقوَّة والأمانة، إلَّا أنَّه لا يتمتَّع بالفِطْنَة، وفي هذه الحالة قد لا يستطيع أن يسيِّر أعماله بالطَّريقة المطلوبة، قال الرَّازي: (القُوَّة والأمانة لا يكفيان في حصول المقصود ما لم ينضمَّ إليهما الفِطْنَة والكَيَاسة) .

أقسام الفِطْنَة


تنقسم الفِطْنَة إلى قسمين:
1- فِطْنَة موهوبة من الله -تبارك وتعالى-، يهبها الله من يشاء من عباده، فينير بصيرته، ويُفَهِّمه ما لا يفهم غيره، فتراه قويَّ الملاحظة، سريع الفهم، نافذ البصيرة، ذكيَّ القلب، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.
2- فِطْنَة مكتسبة تجريبيَّة تتحصَّل للمرء باجتهاده، وكثرة تجاربه، ومعاشرته لأهل العلم والذَّكاء والفِطْنَة والاستفادة منهم ومن تجاربهم، فيتولَّد عنده من الذَّكاء والفِطْنَة ومعرفة الأمور ما لم يكن لديه. ولعلَّنا نستشهد بقول الإبشيهي عن العقل الغريزيِّ والعقل المكتسب، باعتبار أنَّ العقل هو مصدر الفِطْنَة ومحلُّ الذَّكاء، قال الإبشيهي: (العقل: ينقسم إلى قسمين: قسم لا يقبل الزِّيادة والنُّقصان، وقسم يقبلهما، فأمَّا الأوَّل: فهو العقل الغريزيُّ المشترك بين العقلاء، وأما الثَّاني: فهو العقل التجريبيُّ، وهو مكتسب، وتحصل زيادته بكثرة التَّجارب والوقائع، وباعتبار هذه الحالة، يقال: أنَّ الشَّيخ أكمل عقلًا، وأتمُّ دِرَاية، وإنَّ صاحب التَّجارب، أكثر فهمًا وأرجح معرفة) .


__________________________________________________ __________

الوسائل المعينة على اكتساب الفِطْنَة

1- الإيمان:
الإيمان طريق عظيم من طرق اكتساب الفِطْنَة، يقول الطَّاهر بن عاشور: (الإيمان يزيد الفِطْنَة؛ لأنَّ أصول اعتقاده مبنيَّة على نَبْذ كلِّ ما من شأنه تضليل الرَّأي، وطمس البصيرة) .
ومن وسائل اكتسابها -أيضًا-: التَّفقُّه في الدِّين، وطلب العلم الذي ينير البصيرة، ويُعْمِل الفِكَر، وينمِّي الفِطْنَة.
2- إعمال الفكر ومحاولة الفهم:
ومن الوسائل -أيضًا-: محاولة التَّفكر في الأشياء وفهمها، وإعمال الفِكْرة فيها، فإنَّ ذلك ينمِّي الفِطْنَة. يقول ابن القيِّم: (الفِكْر هو الذي ينقل من موت الفِطْنَة إلى حياة اليَقَظَة) .
3- ترك فضول الطعام والشراب والنوم:
فإنَّ فضول هذه الأشياء تجعل الفِكْر راكدًا خاملًا، لا يكاد يَتَفَطَّن للأشياء، إلَّا بصعوبة بالغة، ومشقَّة شديدة.
قال الشَّافعي: (ما شبعت منذ ست عشرة سنة، إلا شبعة اطَّرحتها، يعني فطرحتها؛ لأنَّ الشِّبَع يثقل البدن، ويقسِّي القلب، ويزيل الفِطْنَة، ويجلب النَّوم، ويُضعف صاحبه عن العبادة) .
وعن مكحول: (خصال ثلاث يحبُّها الله عزَّ وجلَّ وثلاث يبغضها الله عزَّ وجلَّ، فأما اللاتي يحبُّها: فقلَّة الأكل، وقلَّة النَّوم، وقلَّة الكلام، وأمَّا اللاتي يبغض: فكثرة الأكل، وكثرة الكلام، وكثرة النَّوم، فأمَّا النَّوم، فإنَّ في مداومته طول الغفلة، وقلَّة العقل، ونقصان الفِطْنَة، وسهوة القلب) .
قال شمس الدِّين السَّفاريني: (والبِطْنَة تُذْهِب الفِطْنَة، وتجلب أمراضًا عَسِرة، ومقام العدل أن لا يأكل حتى تُصدَّ الشَّهوة، وأن يرفع يده، وهو يشتهي الطعام) . وقال أبو حامد الغزالي: (الشِّبَع يثقل البدن ويقسِّي القلب، ويزيل الفِطْنَة، ويجلب النَّوم، ويُضعف صاحبه عن العبادة) .
و(الجوع إِذَا ساعدته القناعة، فَهُوَ من مزرعة الفِكْر، وينبوع الحِكْمة، وحياة الفِطْنَة، ومصباح القلب) .
4- محاسبة النفس:
ومن وسائل اكتساب هذه الصِّفة: محاسبة النَّفس، قال الحارث بن أسد: (المحاسَبة تورث الزِّيادة في البصيرة، والكَيْس في الفِطْنَة، والسُّرعة إلى إثبات الحجَّة، واتِّساع المعرفة) .

نماذج في فِطْنَة الأنبياء والمرسلين


- قال ابن عبَّاس: (لما شبَّ إسماعيل، تزوَّج امرأة من جُرْهم، فجاء إبراهيم فلم يجد إسماعيل، فسأل امرأته، فقالت: خرج يبتغي لنا. ثمَّ سألها عن عَيْشهم، فقالت: نحن بِشَرٍّ، في ضيق وشدَّ، وشكت إليه. فقال: فإذا جاء زوجك فاقرئي -عليه السَّلام- وقولي له يغير عتبة بابه. فلما جاء فأخبرته، قال: ذاك أبي، وقد أمرني أن أفارقك، الحقي بأهلك) .
- وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: ((بينما امرأتان معهما ابناهما، جاء الذِّئب، فذهب بابن إحداهما، فقالت هذه لصاحبتها: إنَّما ذهب بابنك أنت. وقالت الأخرى: إنَّما ذهب بابنك، فتحاكمتا إلى داود، فقضى به للكبرى، فخرجتا على سليمان بن داود عليهما السَّلام فأخبرتاه، فقال: ائتوني بالسِّكِّين أشقُّه بينكما. فقالت الصُّغرى: لا، يرحمك الله هو ابنها. فقضى به للصُّغرى)) .
قال ابن الجوزي: (أمَّا داود عليه السَّلام فرأى استواءهما في اليد، فقدم الكبرى لأجل السِّنِّ، وأما سليمان عليه السَّلام فرأى الأمر محتملًا، فاستنبط، فأَحْسَن، فكان أَحَدَّ فِطْنَةً من داود، وكلاهما حَكَم بالاجتهاد، لأنَّه لو كان داود حكم بالنَّص، لم يسع سليمان أن يحكم بخلافه، ولو كان ما حَكَم به نصًّا، لم يَخْفَ على داود.
وهذا الحديث يدل على أنَّ الفِطْنَة والفهم موهبة لا بمقدار السِّنِّ ) .
نماذج في فِطْنَة النَّبي صلى الله عليه وسلم الفِطْرِيَّة

- عن علي رضي الله عنه قال: (لما قدمنا المدينة، أصبنا من ثمارها فاجتَوَيناها، وأصابنا بها وَعْكٌ، وكان النَّبي صلى الله عليه وسلم يتخبَّر عن بدر، فلمَّا بلغنا أنَّ المشركين قد أقبلوا، سار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بدر -وبدر بئر-، فسبقنا المشركون إليها، فوجدنا فيها رجلين منهم؛ رجلًا من قريش، ومولى لعقبة بن أبي مُعَيط، فأمَّا القرشي: فانفلت، وأمَّا مولى عقبة: فأخذناه، فجعلنا نقول له: كم القوم؟ فيقول: هُمْ -والله- كثير عددهم، شديد بأسهم، فجعل المسلمون -إذ قال ذلك- يضربوه حتى انتهوا به إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم، فقال له: كم القوم؟ قال: هُمْ -والله- كثير عددهم، شديد بأسهم. فجهد النَّبي صلى الله عليه وسلم أن يخبره: كم هم؟ فأبَى، ثمَّ إنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم سأله: كم ينحرون من الجُزر؟ فقال: عشرًا كلَّ يوم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: القوم ألف، كلُّ جَزُور لمائة وتبعها) .
- أنَّ علقمة بن وائل حدَّثه؛ أنَّ أباه حدَّثه، قال: (إنِّي لقاعد مع النَّبي صلى الله عليه وسلم، إذ جاء رجل يقود آخر بِنِسْعَةٍ، فقال: يا رسول الله، هذا قتل أخي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أقتلته؟ فقال: إنَّه لو لم يعترف أقمت عليه البيِّنة. قال: نعم. قتلته. قال: كيف قتلته؟ قال: كنت أنا وهو نختبط من شجرة، فسبَّني فأغضبني، فضربته بالفأس على قرنه فقتلته. فقال له النَّبي صلى الله عليه وسلم: هل لك من شيء تؤدِّيه عن نفسك؟ قال: ما لي مال إلا كسائي وفأسي. قال: فترى قومك يشترونك؟ قال: أنا أهون على قومي من ذاك. فرمى إليه بِنِسْعَةٍ. وقال: دونك صاحبك. فانطلق به الرَّجل. فلما ولَّى، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنْ قتله فهو مثله. فرجع فقال: يا رسول الله، إنَّه بلغني أنَّك قلت: إنْ قتله فهو مثله. وأخذته بأمرك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما تريد أن يبوء بإثمك وإثم صاحبك. قال: يا نبي الله، - لعلَّه قال - بلى. قال: فإنَّ ذاك كذاك. قال: فرمى بنِسْعَته، وخلَّى سبيله) .
قال ابن قتيبة: (لم يُرِد رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّه مثله في المأثم، واستيجاب النَّار إن قتله، وكيف يريد هذا وقد أباح الله عزَّ وجلَّ قتله بالقصاص، ولكن كَرِه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقتصَّ، وأحبَّ له العفو، فعرَّض تعريضًا أوهمه به أنَّه إن قتله كان مثله في الإثم، ليعفو عنه، وكان مراده: أنَّه يقتل نفسًا كما قتل الأوَّل نفسًا، فهذا قاتل وهذا قاتل، فقد استويا في قاتل وقاتل، إلَّا أنَّ الأوَّل ظالم، والآخر مُقْتَصٌّ) .


__________________________________________________ __________

نماذج في فِطْنَة الصَّحابة رضي الله عنهم

فِطْنَة أبي بكر رضي الله عنه:
عن ثابت عن أنس، قال: (لما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يركب وأبو بكر رَدِيفه، وكان أبو بكر يعرف الطَّريق لاختلافه إلى الشَّام، فكان يمرُّ بالقوم، فيقولون: مَنْ هذا بين يديك يا أبا بكر، فيقول: هاد يهديني) .
- وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم النَّاس، وقال(إنَّ الله خيَّر عبدًا بين الدُّنْيا وبين ما عنده، فاختار ذلك العبد ما عند الله)). قال: فبكى أبو بكر، فعجبنا لبكائه، أن يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عبد خُيِّر، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المخَيَّر، وكان أبو بكر أعلمنا .
قال ابن الجوزي: (هذا الحديث قد دلَّ على فِطْنَة أبي بكر، إذْ عَلِم أنَّ المخَيَّر هو رسول الله صلى الله عليه وسلم) .
فِطْنَة عمر رضي الله عنه:
- عن أسلم عن أبيه قال: (قَدِمَت على عمر بن الخطَّاب حُلَلٌ من اليمن، فقسَّمها بين النَّاس، فرأى فيها حُلَّة رديئة، فقال كيف أصنع بهذه، إذا أعطيتها أحدًا، لم يقبلها إذا رأى هذا العيب فيها، قال: فأخذها فطواها، فجعلها تحت مجلسه، وأخرج طرفها، ووضع الحُلَل بين يديه، فجعل يقسم بين النَّاس، قال فدخل الزُّبير بن العوَّام، وهو على تلك الحال، قال: فجعل ينظر إلى تلك الحلَّة، فقال له: ما هذه الحلَّة؟ قال عمر: دع هذه عنك. قال: ما هيه؟ ما هيه؟ ما شأنها؟ قال: دعها عنك. قال: فأعطنيها. قال: إنَّك لا ترضاها. قال: بلى، قد رضيتها. فلمَّا توثَّق منه، واشترط عليه أن يقبلها ولا يردَّها، رمى بها إليه، فلمُّا أخذها الزُّبير ونظر إليها، إذا هي رديئة، فقال: لا أريدها. فقال عمر: هيهات، قد فرغت منها، فأجازها عليه، وأبى أن يقبلها منه) .
- وعن جرير (عن عمر قال له -قال لجرير - والنَّاس يتحامون العراق وقتال الأعاجم-: سِر بقومك، فما قد غلبت عليه فلك ربعه، فلمَّا جُمِعت الغنائم -غنائم جلولا- ادعى جرير أنَّ له ربع ذلك كلِّه، فكتب سعد إلى عمر بذلك، فكتب عمر: صدق جرير قد قلت ذلك له، فإن شاء أن يكون قَاتَل هو وقومه على جُعْلٍ فأَعْطُوه جُعْلَه، وإن يكن إنَّما قاتل لله ولدينه ولحبيبه، فهو رجل من المسلمين، له ما لهم، وعليه ما عليهم. فلمَّا قَدِم الكتاب على سعد، أخبر جرير بذلك، فقال جرير: صدق أمير المؤمنين، لا حاجة لي به، بل أنا رجل من المسلمين) .
فِطْنَة علي رضي الله عنه:
عن خنبش بن المعتمر: (أنَّ رجلين أتيا امرأة من قريش فاستودعاها مائة دينار، وقالا: لا تدفعيها إلى واحد منَّا دون صاحبه حتى نجتمع، فلبثا حولًا، فجاء أحدهما إليها، فقال: إنَّ صاحبي قد مات، فادفعي إليَّ الدَّنانير، فأبت، وقالت: إنَّكما قلتما لا تدفعيها إلى واحد منَّا دون صاحبه، فلست بدافعتها إليك، فثقل عليها بأهلها وجيرانها فلم يزالوا بها، حتى دفعتها إليه، ثم لبثت حولًا، فجاء الآخر فقال: ادفعي إليَّ الدَّنانير. فقالت: إنَّ صاحبك جاءني، فزعم أنَّك مِتَّ، فدفعتها إليه، فاختصما إلى عمر بن الخطَّاب، فأراد أن يقضي عليها، فقالت: أنشدك الله أن تقضي بيننا، ارفعنا إلى عليٍّ، فرفعهما إلى عليٍّ، وعرف أنهما قد مكرا بها، فقال: أليس قد قلتما لا تدفعيها إلى واحد منَّا دون صاحبه؟ قال: بلى. قال: فإنَّ مالك عندنا، فاذهب فجئ بصاحبك حتى ندفعهما إليكما) .
فِطْنَة عبد الله بن عمر رضي الله عنهما:
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ من الشَّجر شجرة لا يسقط ورقها، وإنَّها مَثَل المسلم، فحدِّثوني ما هي؟ فوقع النَّاس في شجر البوادي، قال عبد الله: ووقع في نفسي أنَّها النَّخلة، فاستحييت. ثم قالوا: حدِّثنا ما هي يا رسول الله؟ قال: فقال: هي النَّخلة. قال: فذكرت ذلك لعمر قال: لأن تكون قلت: هي النَّخلة. أحبُّ إليَّ من كذا وكذا)
نماذج في فِطْنَة العلماء

فِطْنَة القاضي إياس بن معاوية:
القاضي إياس يُضْرب بفطنته وذكائه المثَل، وإيَّاه عنى أبو تمَّام الطَّائي الشَّاعر بقوله:


إقدامُ عَمْرو في سَمَاحَة حاتم





في حِلْمِ أَحْنَفَ في ذَكَاءِ إِيَاس


تحاكم إليه رجلان، فقال أحدهما: إنِّي نزلت إلى النَّهر لأستحمَّ، ولي قطيفة خضراء جديدة وضعتها على جانب النَّهر، وجاء هذا، وعليه قطيفة حمراء عتيقة، فوضعها ونزل الماء، ولما طلعنا، سبقني وأخذ القطيفة الخضراء، فقال: ألكما بينة؟ فقالا: لا. فأمر بمشط فحضر فمشَّطهما به، فلما فعله خرج الصُّوف الأخضر من رأس صاحب القطيفة الخضراء فأمر له بها .
- وكان يومًا في بريَّة فأعوزهم الماء، فسمع نُبَاح كلب، فقال: هذا على رأس بئر، فاستقروا النُّبَاح، فوجدوه كما قال، فسألوه عن ذلك، فقال: لأنِّي سمعت صوته كالذي يخرج من بئر .
فِطْنَة الخليل بن أحمد الفراهيدي:
يقال: إنَّه كان عند رجل دواء لظُلْمة العين، ينتفع به النَّاس، فمات، وأضرَّ ذلك بمن كان يستعمله، فقال الخليل بن أحمد: أله نسخة معروفة؟ قالوا: لا.
قال: فهل له آنية كان يعمله فيها؟ قالوا: نعم، إناء كان يجمع فيه الأخلاط.
فقال: جيئوني به، فجاؤوه به، فجعل يشمُّه، ويخرج نوعًا نوعًا، حتى ذكر خمسة عشر نوعًا، ثمَّ سأل عن جميعها ومقدارها، فعرف ذلكم من يعالج مثله، فعمله وأعطاه النَّاس، فانتفعوا به مثل تلك المنفعة، ثمَّ وجدت النُّسخة في كتب الرَّجل، فوجدوا الأخلاط ستة عشر خلطًا، كما ذكر الخليل، لم يفته منها إلا خلط واحد .
فِطْنَة أبي حازم:
جاء رجل إلى أبي حازم، فقال له: (إنَّ الشَّيطان يأتيني، فيقول: إنَّك قد طلَّقت زوجتك، فيشكِّكُني، فقال له: أو ليس قد طلَّقتها؟ قال: لا. قال: ألم تأتني أمس، فطلَّقتها عندي. فقال: والله، ما جئتك إلَّا اليوم، ولا طلَّقتها بوجه من الوجوه. قال: فاحلف للشَّيطان إذا جاءك، كما حلفت لي، وأنت في عافية) .
الفِطْنَة في الأمثال والحِكَم
- وقال معاوية رضي الله عنه: (العقل مِكْيالٌ، ثلثه فِطْنَةٌ، وثُلثاه تغافلٌ) .
- قال ابن القيِّم: (من دقيق الفِطْنَة: أنَّك لا تردُّ على المطَاع خطأه بين الملأ، فتَحْمِله رُتْبَته على نُصْرة الخطأ. وذلك خطأ ثان، ولكن تلطَّف في إعلامه به، حيث لا يشعر به غيره) .
- وقال أبو الفتح الأبشيهي: (العين المتوسطة في حجمها تدلُّ على الفِطْنَة) .
- وقال الرَّازي: (الفِطْنَة والبَلَادة من الأحوال الغريزيَّة) .
الفِطْنَة في واحة الشِّعر

يقول ابن أبي عيينة:


فانظر وفكِّر فيما تمرُّ به





إنَّ الأريب المفكر الفَطِن


وقال حبيب في بني تغلب من أهل الجزيرة، يصفهم بالجفاء وقلَّة الأدب مع كرم النُّفوس:


لا رِقَّة الحضر اللَّطيف غَذَتهم





وتباعدوا عن فِطْنَة الأعرابِ



م/ن


__________________________________________________ __________

كم امتاز طرحك بالمعلومات وروعة الطرح
بارك الله فيك وسدد خطاك
يقيم بالنجوم + ينقل للمواضيع المميزة




__________________________________________________ __________

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة نورراية
كم امتاز طرحك بالمعلومات وروعة الطرح
بارك الله فيك وسدد خطاك
يقيم بالنجوم + ينقل للمواضيع المميزة



اللهم آمين وفيك بارك الله
نورت بمرورك
شكرا على النجوم