عنوان الموضوع : أتعذب من قلة الموت مجابة
مقدم من طرف منتديات نساء الجزائر

أتعذب من قلة الموت



قال لي مرة:‏

ـ أتعذب من قلة الموت.‏

ولم أقل له في مرة:‏

ـإني أتعذب لكثرة ما أفكر في الموت. يعذبني ألا أعرف كيف سأموت.‏

أحياناً, يحدث هكذا, في غمرة انشغال أو انفعال. أن تصعقني فكرة موتي. لِمَ؟ لا أدري, لكنها تأتي صاعقة في كل مرة. لا يأتي موتي هيناً. لا يأتي على فراشي خلال نوم هانىء, لا يأتي في صلاتي, أمام إلهٍ يرى روحي, ويعلم كم أرهقتها الحياة. لا يأتي وأنا أشاهد دموع الساحرة جوليا روبرتس في: My Best Frind Wedding:. لا يأتي موتي معه, بين يديه, أو حتّى قريباً منه؛ وهذا وحده كفيلً بأن يجعل موتي كئيباً.‏

يأتي موتي صاعقاً, وأحياناً فاجعاً أكثر مما أحتمل: تحت عجلات سيارة, أو أثناء عملية جراحية خطرة, أو بسبب مرض مؤلم, أو.. أو.. أو... أو ماذا؟ فلأقلها ربما هدأت: أو ساقطة من الدور الرابع عشر لمبنى ما. لِمَ الرابع عشر بالتحديد؟ لا أدري/ لكن هذا ما أفكر فيه. الرابع عشر, الرابع عشر, الرابع عشر, وأنا أهوي, أهوي, أهوي. يا إلهي! سأشعر بالرعب. أشعر بالرعب عندما أطل من نافذة الدور الثاني, فكيف بي وأنا أهوي وحييييييييييدة من الطابق الرابع عشر؟ وحدها المباني المحيطة بالحرم ترتفع أربعة عشر طابقاً, لكن ما الذي سيدفعني للسقوط من فوق أحد أسطحها؟ ما الذي سيأخذني إلى هناك كي أموت؟ أصعد, أحياناً, إلى الطابق الثاني أو الثالث في أحدها كي أحتسي كوباً من القهوة في مقهى هناك, أمام نافذة تطل على بيت الله, فهل سأصعد مرة إلى طابقها الأخير كي أموت؟‏

(2)‏

لا يرعبني موتي. يرعبني أن يموت هو, أو أي أحد ممن أحب. لم أقل له في مرة: إن فكرة موته قادرة على أن تحيل يومي إلى ضباب أسود, يحول بيني وبين البهجة.‏

لم أقل له شيئاً عن الموت؛ لأننا لم نتكلم عنه. ربما لأن الموت لا يعني له ما يعنيه لي. قلت له مرات: إني أعرف أن موتي لن يربك حياته, وإني أفكر أحياناً أنه يتمناه. ربما يبدو له موتي حلاً إلهياً لكل ما يعصف بنا. فلم يرد, وعرفتُ حينها أن ما فكرت فيه صحيح. أتألم, لكني لا استطيع أن ألومه. في آخر الأمر, خلق آدم من عدم؛ لذا يبدو أقدر على التآلف مع الموت. أمّا المرأة ـ يـالعذاب المرأة ـ فقد خلقت من ضلع حي؛ ولذلك ـ هكذا أفكر ـ لا شيء يرعبها قدر ما يرعبها الموت.‏

(3)‏

أتساءل مرات:‏

ـ فيمَ سأفكر وأنا أحتضر؟‏

قالت صديقة:‏

ـ إن حياة المحتضر تمر أمام عينيه مثل شريط سينمائي متتابع.‏

سألتها:‏

ـ وما أدراك هل احتضرتِ من قبل؟‏

ابتسمتْ, ولم تقل شيئاً.‏

ظننتُ مرة أني سأفكر في طائرة ورقية تحلق في سماء بعيدة زرقاااااااااااء. تدهشني مثل هذه الأفكار. لِمَ طائرة ورقية؟ ولِمَ سماء بعيدة وزرقاء؟ عندما حكيت لصديقة ما فكرت فيه قالت:‏

أنت تحبين مشاهدة الأفلام الأمريكية كثيراً.‏

أغمضت عيني وابتسمت وأنا أركِّب المشهد في خيالي. بدا مشهداً أمريكياً بامتياز, لكني فكرت فيه هكذا, بعيداً عن سطوة الـ: American Beauty على ذوقي. ما ذنبي إذا كانت الأفلام الأمريكية تلمس مكامن الجمال في كل شيء؟ وكيف لا أستسلم لسطوتها ما دمت مفتونة بالجمال دائماً؟‏

في: face مشهد بديع ربما سأفكر فيه وأنا أحتضر: حمائم بيض تطير بغتة في ساحة كنيسة. أغمضت عيني بعد المشهد مباشرة في أول مرة رأيته فيها. أردت أن أحتفظ به طازجاً لأطول فترة ممكنة في مخيلتي. أحسستُ أن شيئاً ما تغير في قلبي. لم يعد مهماً ما قبل ذلك المشهد, ولم يعد مهماً ما بعده/ هناك فقط الحمائم البيض تحلق بغتة بين أعمدة طويلة, تخفق أجنحتها في أذني. تذكرت حمائم رمادية تحط برفق في حصوة الحرم. تذكرت هديلها على حواف النوافذ. تذكرت فيروز:‏

(هج الحمام‏

وبئيت لحالي)‏

الآن, لم يعد ثمَّ حمائم تحط في حصوة الحرم. كُسِيت الحصوة بالرخام, وهج الحمام إلى ذاكرتي منتظراً أن أحتضر؛ كي أفكر فيه.‏

(4)‏

عندما مات جدي لأبي, خرجت إلى فناء المنزل أبكي. كنتُ أصغر من أن أعيَ معنى أن يموت إنسان/ لكني أحسست أني مقبلة على خسارة فادحة.‏

ما زلت أذكر وقفتي مبتلة تحت المطر أتطلع إلى السماء الغائمة وأبتهل:‏

ـ (يا رب, أوقف هذا المطر قليلاً, كي ترقى روح جدي إليك).‏

كان يوماً شتوياً طويلاً. وقفت خلف باب غرفة موارب أراقب أبي وهو يغسل جثمان أبيه بصمت في الفناء الخارجي. أذكر خرطوم الماء الأحمر, وبرودة الهواء المنسرب عبر الشقوق, وحفيف شجرة الكينا, وسماء زرقاء تلوح عبر غيم مثقوب, وخالتي تأخذني من يدي, وتمضي بي بعيداً, بعيداً عن وجه أبي, وعن نسوة جلسن في غرفة داخلية صامتات, وعن الموت الذي حطَّ بغتة على البيت, أيمكن أن يمضي المرء بعيداً عن الموت؟ لم أسأل خالتي, ولم تقل لي شيئاً, مضت بي فحسب/ غافلة عن أن الأشياء التي نمضي عنها قد تمضي معنا, وألا مفر مما نخاف إلا أن ننغمس فيه.‏

(5)‏

قلت له:‏

ـ لا أريد ان أنجب أبناءً.‏

تغيرت نبرته وهو يقول لي:‏

ـ لنتزوج أولا, ثمّ (يحلها الحلاَّل).‏

وعرفتُ أنه غضب. لكني لم أيأس من أن يفهم. عندما سألني:‏

ـ لِمَ؟‏

قلتُ له:‏

ـ إني أخاف أن أعقهم بأنانيتي.‏

كان ما فعله أبي بنا ماثلاً أمام عيني, وخفت أن أكرره مع أبنائي, لكني لم أقل له إني مرعوبة من أن أموت عنهم وهم صغار. عندما أنجبهم في هذا السن, سأموت قبل أن تتفتح زهرة شبابهم, أو أنني ـ وهذا أسوأ من أن أموت عنهم ـ سأحول بينهم وبين أن يحيوا شبابهم؛ لأنهم سينشغلون بأمهم العجوز المريضة, ينتقلون بها من مشفى إلى آخر, ومن طبيب إلى آخر, مجهدين من قلة النوم وكثرة القلق, تفوح منهم رائحة المشافي, ورائحة الحزن عندما يقيم.‏

قبل خمسة أعوام من الآن كانت لدي رغبة عارمة في أن أنجب طفلاً واحداً. فكرت في أن وجوده سيحول بيني وبين الأسى المتزايد. فكرت أيضاً في أني سأدفن في التماعة أحداقه التجاعيد التي ستخط نفسها عميقاً في ركني عينيَّ. سأتطلع إليه وسأحس أن حياتي لم تخلُ بعد من بهجتها, وأن لدي من استيقظ لأجله كل يوم.‏

الآن, خلوت من كل رغبة في أن أنجب طفلاً؛ ليس لأني يائسة, بل لأنني أعتقد أنني أحبه أكثر من أستلم لرغبتي في إنجابه, وأنا أعرف ما ينتظره.‏

(6)‏

أمام البوابة الشرقية للبقيع وقفتُ: تشبثتُ بزخارفها النافرة, وطفقتُ أتأمل عبرها القبور المتراصة بلا نظام محدد. تلال صغيرة ترتفع عن الأرض قليلاً, تفصل بين كل مجموعة منها ممرات مرصوفة, ويحيط بكل تلة منها حجارة سوداء جهمة. شعرت بوحدة مريعة. سمعتُ أصوات السيارات وهي تعبر بسرعة خلفي فووووووو, فووووووو, فووووووو. تخيلتني تحت تلة من تلك التلال, فأرعبتني الوحدة. تخيلت أني ممدة في الظلمة العاتية لقبري أسمع قرع نعال امرأة تشبثت قليلاً بزخارف البوابة الحديدية النافرة, ثمّ مضت لشأنها. لم تفكر في التلال, ولم يرعبها أن تكون الوحدة آخر ما يبقى لها. جاءت تلقي نظرة على موتاها, وتدعو لهم, ثمّ مضت كمن تقوم بزيارة جيران غابت عنهم لبعض الوقت ثمّ تمضي خالية من أي فكرة عن الموت المترصد. حسدتُها على قدرتها على أن ترى ما رأيت دون أن ترهقها أفكار عن الموت, والوحدة, والفـراق المر. جاءت في خيالي, ومضت في خيالي, فيما بقيتُ مسمرة أمام البوابة أتأمل تلال الموتى, وأتساءل: أيهم أقرب عهداً بحياة؟ وأيهم تحلل تحت الرمل, ولم يعد يفزع من وحدته؟‏

(7)‏

يحدث أحياناً أن أتساءل:‏

ـ ما الذي يفتقده الموتى بشدة؟‏

بعد برهة ينقلب السؤال عليَّ:‏

ـ ما الذي سأفتقده بشدة عندما أموت؟‏

سأفتقد أن أغمس سبابتي في غمازة ذقنه العميقة. يا الله, كم هي عميقة.أجل, عميقة بما يكفي كي أتمدد فيها وأغمض عيني للمرة الأخيرة. سأفتقد صمته عندما أقول ما لا يعجبه. سأفتقد أن أدفن وجهي في صدره وأغمض عيني, وعندما أفتحهما ألمح غزالة صغيرة ترعى عشب صدره, وتحبه مثلي. سأفتقد ارتباكه وهو يضمني إليه, همهمته: أحبك, شروده أحياناً. سأفتقد حديثنا عن: التفاح, والعرب, والهلال, والاتحاد, والإثنية, وعلم الاجتماع, والسينما, والـ Nostagia , وميلان كونديرا, والهوية, والحرب, واليأس, والإرهاب, والكلية, والبيت, وخالد الشيخ, والأصدقاء إذ يترمدون, والنفق المظلم, وجهيمان العتيبي, وزبانية البريد. يا إلهي! كم سأفتقد أن يحبني.‏

سأفتقد أيضاً طعم الذرة أبتاعها من سوق الدخيل, وأن أجرع Coca-cola على مهل أمام شاشة التلفزيون, والبيت خالٍ إلا مني. سأفتقد أن أمضي وحيدة باتجاه الحرم, وأن أحزن وأنا أرى حرم الله يُمسَخ يوماً بعد يوم. سأفتقد مزاجي الأزرق في بعض الأيام, وأن أتأمل الأسماء تومض على شاشة جوالي دون أن أفكر في الرد على أحد. سأفتقد أن أطرق وصوت الحجار يقرع أبواب الحنين:‏

(لما الشتاء يدء البيبان‏

لما تناديني الذكريات)‏

وأن يختلج قلبي وجوليا بطرس تبتهل‏

(يا رب عينك ع الدني عِنَّا)‏

وأن أغمض عيني وأنغام تهدل:‏

(بعتلي نظرة بعتِله)‏

سأفتقد أن أقبع أمام شاشة كمبيوتري في آخر الليل, انتقل من موقع إلى آخر, وعندما يدهمني الملل أمضي إلى Google, وأكتب أي كلمة تخطر في بالي لحظتها, ثمّ أتأمل ما ينفتح عنه باب مغارة Google, وإن لم يرق لي كتبتُ كلمة جديدة.‏

سأفتقد أن أراكم الكتب بجوار سريري, وأن أقفز فجأة لأتناول Macbeth من على رف منخفض فقط كي أقرأ:‏

(But Wherefore could not I Pronounce " Amen"?‏

Ihad most need of blessing, and “ Amen”‏

Stuck in my throat)‏

أو أن أتناول In the Eye of the Sun، وأقلب صفحاتها بعجلة كي أقرأ:‏


( We don t talk much, but what I want to say to you is that iearning to play backgammon with my grandfather under our parasol by the sea and eating my first iobster and all the books I,ve read and the songs I,ve heard and stories Dada Zeina,s told me and the days of my childhood and the nights I,ve tasted the sea and waited for life to begin are now part of loving you, and we don,t really seem to need to talk- except you do say, I,want to grow old with you.)


يالإلهي، ياإلهي الرحيم! كم سأفتقد أن أحيا.‏

(8)‏

( حين أموت‏

سأستمر بسماع‏

ارتجافة‏

فستانك في الريح)‏


>>>>> ردود الأعضـــــــــــــــــــاء على الموضوع <<<<<
==================================


تدرين اني اتمنى الموت في كل فتره بس اخاف من اعمالي مو ضامنتها ياليت اعيش بدنيا غير هالدنيا وغير هالناس وتحياتي لك على موضوعك الحلو


__________________________________________________ __________


__________________________________________________ __________


__________________________________________________ __________


__________________________________________________ __________