عنوان الموضوع : قصص الانبياء عليهم السلام .. -قصة جميلة
مقدم من طرف منتديات نساء الجزائر
قصص الانبياء عليهم السلام ..
السلام عليكم
نوح عليه السلام
1-
وقد أرسله الله إلى قومٍ فسد حالهم، ونسوا أصول شريعة الله التي أنزلها على أنبيائه ورسله السابقين، وصاروا يعبدون الأوثان. وقد أثبت القرآن الكريم خمسة أوثان لهم، كانوا يقدسونها ويعبدونها، وهي: (وَدّ - سُوَاع - يَغُوث - يَعُوق - نْسْر). قال الله تعالى: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} [نوح: 23].
نسب نوح:
يذكر النسَّابون أنه: نوح (عليه السلام) بن لامك بن متوشالح بن إدريس ("أخنوخ" عليه السلام) بن يارد بن مهلائيل بن قينان بن أنوش بن شيث (عليه السلام) بن آدم (عليه السلام) أبي البشر. والله أعلم.
حياة نوح مع قومه في فقرات:
وقد ذُكرت قصة نوح مع قومه في ست سور من القرآن الكريم بشكل مفصَّل، وأبرز ما فيها النقاط التالية:
-1 إثبات نبوته ورسالته.
-2 دعوته لقومه دعوة ملحَّة، وثباته وصبره فيها، واتخاذه فيها مختلف الحجج والوسائل.
-3 إعراض قومه عنه، فكلما زادهم دعاءً وتذكيراً زادوه فراراً وإعراضاً، وإصراراً على الباطل، واحتقاراً لأتباعه من الضعفاء.
-4 عبادة قومه الأوثان الخمسة التي مرَّ ذكرها، وضلالهم الكثير.
-5 تنكّر قومه لدعوته، وتكذيبه فيها بحجة أنه رجل منهم، ثم طلبهم إنزال العذاب الذي يَعِدهم به.
-6 شكوى نوح إلى ربه أن قومه عصَوْه، واتبعوا من لم يزده ماله وولده إلاَّ خساراً.
-7 إعلام أو إخبار الله لنوح بأنه لن يؤمن من قومه إلاَّ من آمن، وذلك بعد زمن طويل لبعثه فيهم وهو يدعوهم ويصبر عليهم، وقد تعاقبت عليه منهم أجيال.
-8 دعوة نوح عليهم بقوله: {رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا * إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلا فَاجِرًا كَفَّارًا} [نوح: 26-27].
-9 أمْرُ الله لنوح أن يصنع السفينة - وقد كان ماهراً في النجارة - وذلك تهيئة لإِنقاذه هو ومَن معه من الطوفان الذي سيغسل الأرض من الكفر.
-10 سخرية قوم نوح منه كلما مرَّ عليه ملأَ منهم ورأَوْهِ يصنع السفينة، وذلك إمعاناً منهم بالضلال وهم يَرَون منذرات العذاب.
-11 حلول الأجل الذي قضاه الله وقدَّره للطوفان، وكان من علامة ذلك أن فار الماء من التَّنُّور.
-12 أمر الله لنوح أن يحمل في السفينة:
(أ) من كلٍّ زوجين اثنين.
(ب)أهله إلاَّ من كفر منهم، ومنهم ولده الذي كان من المُغْرَقين وزوجته.
(ج) الذين آمنوا معه، وهؤلاء قليل.
فركبوا فيها وقالوا: {بِاِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا} [هود: 41].
-13 تفجّر عيون الأرض، وانسكاب سحب السماء، ووقوع قضاء الله، ودعوة نوحٍ ولدَه في آخر الساعات قبيل غرقه، ولكن هذا الولد رفض الإِيمان، وظن النجاة بالاعتصام بالجبل وجرت السفينة بأمر الله، وقُضي الأمر، وكان ولد نوح من المغرقين.
-14 تحسُّر نوحٍ على ولده وهو في السفينة تجري بأمر الله وتمنِّيه أن يكون معه ناجياً، وقوله لربه: "إن ابني من أهلي" وعتاب الله له، وإخباره بأن هذا الولد ليس من أهله، لأنه كافر عمل عملاً غير صالح.
-15 ختم القصة بالإِعلان عن انقضاء الأمر:
{وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [هود: 44].
الجودي: جبل في نواحي ديار بكر من بلاد الجزيرة، وهو متصل بجبال أرمينية. ويُسمى في التوراة: "أراراط".
-16 ذِكْرُ المدة التي لبثها نوح في قومه، وهي: ألف سنة إلاَّ خمسين عاماً، فهل هي مجموع حياته، أو هي فترة دعوته لقومه - أي: منذ رسالته حتى وفاته - أو هي منذ ولادته أو رسالته إلى زمن الطوفان؟ كل ذلك محتمل والله أعلم بالحقيقة.
قال الله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمْ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ} [العنكبوت: 14].
ويرجح الرأي الأخير لقوله تعالى: {فأخذهم الطوفان} بعد قوله: {فلبث فيهم ألف سنة إلاَّ خمسين عاماً}، لما تفيده الفاء من الترتيب.
-17 بيان أن الذين بقوا بعد نوح هم ذريته فقط، وذلك في قوله تعالى: {وجعلنا ذريته هم الباقين}.
قال المؤرخون: وهم ذرية أولاده الثلاثة، سام وحام ويافث.
ويقولون أيضاً:
-1 سام: أبو العرب وفارس الروم.
-2 وحام: أبو السودان والفرنج والقبط والهند والسند.
-3 ويافث: أبو الترك والصين والصقالبة ويأجوج ومأجوج.
والله أعلم بالحقيقة.
>>>>> ردود الأعضـــــــــــــــــــاء على الموضوع <<<<<
==================================
السلام عليكم
آدم عليه السلام
ملخص قصة آدم عليه السلام
أبو البشر، خلقه الله بيده وأسجد له الملائكة وعلمه الأسماء وخلق له زوجته وأسكنهما الجنة وأنذرهما أن لا يقربا شجرة معينة ولكن الشيطان وسوس لهما فأكلا منها فأنزلهما الله إلى الأرض ومكن لهما سبل العيش بها وطالبهما بعبادة الله وحده وحض الناس على ذلك، وجعله خليفته في الأرض، وهو رسول الله إلى أبنائه وهو أول الأنبياء
انصرفت مشيئة الله تعالى إلى خلق آدم.. قال الله تعالى وتبارك للملائكة:
إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً
اختلف الناس في معنى خلافة آدم.. فمن قائل إنه خليفة لجنس سبق على الأرض، وكان هذا الجنس يفسد فيها ويسفك الدماء.. ومن قائل إنه كان خليفة لله تعالى، بمعنى أنه خليفة في إمضاء أحكامه وأوامره، لأنه أول رسول إلى الأرض.. وهذا ما نعتقده.. سأل أبو ذر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، عن آدم: أنبيا كان مرسلا؟ قال: نعم.. قيل: لمن كان رسولا ولم يكن في الأرض أحد؟ قال: كان رسولا إلى أبنائ.
يبين لنا الله تعالى بداية الأمر بقوله جل من قائل:
وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ
وهذه آراء بعض المفسرين في هذه الآية.
قال تفسير المنار: إن هذه الآيات من المتشابهات التي لا يمكن حملها على ظاهرها، لأنها بحسب قانون التخاطب إما استشارة من الله تعالى، وذلك محال عليه تعالى. وإما إخبار منه سبحانه للملائكة واعتراض منهم وجدال، وذلك لا يليق بالله تعالى ولا بملائكته، واقترح صرف معنى القصة لشيء آخر.
وقال تفسير الجامع لأحكام القرآن: إن الله تعالى كان قد أخبر ملائكته أنه إذا جعل في الأرض خلقا أفسدوا وسفكوا الدماء، وحين قال تعالى:
إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً
قالوا أهذا هو الخليفة الذي حدثتنا عن إفساده في الأرض وسفكه للدماء، أم خليفة غيره؟ وقال تفسير "في ظلال القرآن": إن الملائكة بفطرتهم البريئة التي لا تتصور إلا الخير والنقاء قد حسبوا أن التسبيح بحمد الله وتقديسه هو الغاية المطلقة للوجود، وهذه الغاية متحققة بوجودهم هم، وسؤالهم يصور دهشتهم ولا يعبر عن اعتراض من أي نوع.
رأينا كيف اجتهد كل واحد من المفسرين لكشف الحقيقة. فكشف الله لكل واحد فيهم عمقا منها.. وإنما أوقع في الحيرة عمق القرآن.. وتقديم القصة بأسلوب الحوار، وهو أسلوب بالغ التأثير والنفاذ. إن الله تعالى يحكي لنا القصة بأسلوب الحوار، وليس من الضروري أن تكون قد وقعت بنفس هذا الأسلوب.. ألا ترى أن الله تعالى يقول في سورة (فصلت):
ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ
هل يتصور أحد من الناس أن الله عز وجل قد خاطب السماء والأرض، وردت عليه السماء والأرض ووقع بينهما هذا الحوار..؟ إنما يأمر الله تعالى السماء والأرض فتطيع السماء والأرض. وإنما صور الله ما حدث بأسلوب الحوار لتثبيته في الذهن، وتأكيد معناه وإيضاحه.
لذلك نرى أن الله تعالى حين قرر خلق آدم، حدث ملائكته من باب إعلامهم كي يسجدوا له، لا من باب أخذ رأيهم أو استشارتهم.. تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. حدثهم الله تعالى أنه سيجعل في الأرض خليفة، وأن هذا الخليفة ستكون له ذرية وأحفاد، وأن أحفاده وذريته سيفسدون في الأرض، ويسفكون فيها الدماء. وقامت الحيرة في نفوس الملائكة الأطهار. إنهم يسبحون بحمد الله، ويقدسون له.. والخليفة المختار لن يكون منهم، فما هو السر في ذلك؟ ما هي حكمة الله تبارك وتعالى في الأمر؟ لم تستمر حيرة الملائكة وتشوقهم إلى شرف الخلافة في الأرض ودهشتهم من تشريف آدم بها، لم يستمر هذا الحوار الداخلي طويلا.. ثم ردهم إلى اليقين والتسليم قوله تعالى:
منتديات عالم المرأة
إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ
وبهذه الإشارة إلى علمه المحيط وعلمهم القاصر عاد التسليم واليقين.
نستبعد وقوع الحوار بين الله تعالى وملائكته تنزيها لله، وإكبارا لملائكته.. ونعتقد أن الحوار قام في نفوس الملائكة لحمل شرف الخلافة في الأرض.. ثم أعلمهم الله تعالى أن طبيعتهم ليست مهيأة لذلك ولا ميسرة له. إن التسبيح بحمد الله وتقديسه هو أشرف شيء في الوجود ولكن الخلافة في الأرض لا تقوم بذلك وحده، إنما هي تحتاج إلى طبيعة أخرى. طبيعة تبحث عن المعرفة وتجوز عليها الأخطاء.
هذه الحيرة أو هذه الدهشة أو هذا الاستشراف.. هذا الحوار الداخلي الذي ثار في نفوس الملائكة بعد معرفة خبر خلق آدم.. هذا كله يجوز على الملائكة، ولا ينقص من أقدارهم شيئا، لأنهم، رغم قربهم من الله، وعبادتهم له، وتكريمه لهم، لا يزيدون على كونهم عبيدا لله، لا يشتركون معه في علمه، ولا يعرفون حكمته الخافية، وغيبه المستور، وتدبيره في الخفاء، ولا يعرفون حكمته العليا وأسباب تحقيقها في الأشياء.
ولسوف تفهم الملائكة فيما بعد أن آدم نوع جديد من المخلوقات، فهو يختلف عنهم في أن عمله لن يكون تسبيح الله وتقديسه، ولن يكون مثل حيوانات الأرض وكائناتها، يقتصر وجوده على سفك الدماء والإفساد فيها.. إنما سيكون آدم نوعا جديدا من المخلوقات. وستتحقق بوجوده حكمة عليا لا يدريها أحد غير الله. وتلك حكمة المعرفة.. قال الله تعالى:
وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ
قرأها ابن عباس "إلا ليعرفون".. فكأن المعرفة هدف النوع الإنساني وغاية وجوده. وسوف يبين لنا الله بأسلوب الحوار كيف كان ذلك.
ولعل اجمل اقتراب من تفسير هذه الآيات كلمة الشيخ محمد عبده.. "إن الحوار في الآيات شأن من شئون الله تعالى مع ملائكته.. صوره لنا في هذه القصة بالقول والمراجعة والسؤال والجواب، ونحن لا نعرف حقيقة ذلك القول، ولكننا نعلم أنه ليس كما يكون منا نحن البشر.."
أدركت الملائكة أن الله سيجعل في الأرض خليفة.. وأصدر الله سبحانه وتعالى أمره إليهم تفصيلا، فقال إنه سيخلق بشرا من طين، فإذا سواه ونفخ فيه من روحه فيجب على الملائكة أن تسجد له، والمفهوم أن هذا سجود تكريم لا سجود عبادة، لأن سجود العبادة لا يكون إلا لله وحده.. قال تعالى في سورة (ص):
إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِن طِينٍ (71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (72) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73) إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنْ الْكَافِرِينَ
جمع الله سبحانه وتعالى قبضة من تراب الأرض، فيها الأبيض والأسود والأصفر والأحمر، ولهذا يجيء الناس ألوانا مختلفة.. ومزج الله تعالى التراب بالماء فصار صلصالا من حمأ مسنون. تعفن الطين وانبعثت له رائحة.. وكان إبليس يمر عليه فيعجب أي شيء يصير هذا الطين؟ من هذا الصلصال خلق الله تعالى آدم.. سواه بيديه سبحانه، ونفخ فيه من روحه سبحانه.. فتحرك جسد آدم ودبت فيه الحياة.. فتح آدم عينيه فرأى الملائكة كلهم ساجدين له.. ما عدا واحدا يقف هناك.. لم يكن آدم قد عرف أي نوع من المخلوقات هذا الذي لم يسجد له.. لم يكن يعرف اسمه.. كان إبليس يقف مع الملائكة، ولكنه لم يكن منهم.. كان من الجن.. والمفروض، بوصفه أقل من الملائكة، أن تنطبق عليه الأوامر التي تصدر لهم.
حكى الله تعالى قصة رفض إبليس السجود لآدم في أكثر من سورة.. قال تعالى في سورة (ص):
قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ (75) قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ (76) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (77) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (78)قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (79) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ (80)إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (81) قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82)إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ
إن حجة إبليس التي أوردها الله في آيته هذه تثير العجب فعلا.. إنه يتصور أن النار أفضل من الطين.. فمن أين جاءه هذا العلم، والمفروض أن يكون هذا العلم عند الله، فهو الذي خلق النار والطين ويعرف أيهما أفضل..؟
أدرك آدم من الحوار أن إبليس مخلوق يتصف باللؤم كما يتصف بالجحود. إنه يسأل الله تعالى أن يبقيه إلى يوم البعث، لا يريد إبليس أن يموت، غير أن الله تعالى يفهمه أنه سيبقى إلى يوم الوقت المعلوم.. سيبقى إلى أن يحين أجله فيموت.. أدرك آدم أن الله قد لعن إبليس ، وطرده من رحمته بسببه، أدرك أن إبليس لن ينسى له هذا الصنيع.. انتهى الأمر وعرف آدم عدوه الأبدي.. وأدهشت آدم بعض الدهشة جرأة عدوه وحلم الله عز وجل؟؟
ربما قال لي قائل: لماذا استبعدت أن يكون قد جرى حوار بين الله عز وجل وملائكته.. ولجأت إلى تأويل الآيات، ولم تستبعد وقوع حوار بين الله تعالى وإبليس؟ وأقول ردا على ذلك: إن العقل يهدي لهذه النتيجة.. إن إمكان قيام حوار بين الله وتعالى وملائكته أمر مستبعد، لأن الملائكة منزهون عن الخطأ والقصور والرغبات البشرية التي تبحث عن المعرفة. انهم بحكم خلقهم، جند طائعون مكرمون.. أما إبليس فهو خاضع للتكليف، وطبيعته، بوصفه من الجن، قريبة من طبيعة جنس آدم.. بمعنى أن الجن يمكن أن يؤمنوا، ويمكن أن يكفروا.. إن وجدانهم الديني يمكن أن يسوقهم إلى تصور خاطئ يسند كبرياء كاذبة.. ومن هذا الموقع وبحكم هذا التكوين، يمكن أن ينشأ حوار.. والحوار يعني الحرية، ويعني الصراع. ولقد كانت طبيعة البشر والجان مركبة بشكل يسمح لهم بالحرية، ويسمح لهم بالصراع. أما طبيعة الملائكة فمن لون آخر لا تدخل الحرية في نسيجه.
إن إبليس رفض أن يسجد لآدم.. كان الله تعالى يعلم أنه سيرفض السجود لآدم.. سوف يعصاه.. وكان الله يستطيع أن ينسفه نسفا، أو يحيله إلى حفنة من التراب، أو يخنق بعزته وجلاله كلمة الرفض في فم إبليس.. غير أن الله تعالى يعطي مخلوقاته المكلفة قدرا من الحرية لا يعطيه غيره أحدا.. إنه يعطيهم حرية مطلقة تصل إلى حق رفض أوامره سبحانه.. إنه يمنحهم حرية الإنكار وحرية العصيان، وحرية الاعتراض عليه.. سبحانه وتعالى. لا ينقص من ملكه أن يكفر به الكافرون، ولا يزيد من ملكه أن يؤمن به المؤمنون، إنما ينقص ذلك من ملك الكافرين، أو يزيد في ملك المؤمنين.. أما هو.. فتعالى عن ذلك.. فهم آدم أن الحرية نسيج أصيل في الوجود الذي خلقه الله.. وأن الله يمنح الحرية لعباده المكلفين.. ويرتب على ذلك جزاءه العادل.
بعد درس الحرية.. تعلم آدم من الله تعالى الدرس الثاني.. وهو العلم.. كان آدم قد أدرك أن إبليس هو رمز الشر في الوجود، كما أدرك أن الملائكة هم رمز الخير، أما هو نفسه فلم يكن يعرف نفسه حتى هذه اللحظة.. ثم أطلعه الله سبحانه وتعالى على حقيقته، وحكمة خلقه، وسر تكريمه.. قال تعالى:
وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا
__________________________________________________ __________
أعطاه الله تعالى سر القدرة على اختصار الأشياء في رموز ومسميات. علمه أن يسمي الأشياء: هذا عصفور، وهذا نجم، وهذه شجرة، وهذه سحابة، وهذا هدهد، وهذه …، إلى آخر الأسماء. تعلم آدم الأسماء كلها. الأسماء هنا هي العلم.. هي المعرفة.. هي القدرة على الرمز للأشياء بأسماء.. غرس الله في نفس آدم معرفة لا نهاية لها، وحبا للمعرفة لا نهاية له، ورغبة يورثها أبناءه في التعلم.. وهذه هي الغاية من خلق آدم، وهذا هو السر في تكريمه.
بعد أن تعلم آدم أسماء الأشياء وخواصها ومنافعها، بعد أن عرف علمها، عرض الله هذه الأشياء على الملائكة فقال:
أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَـؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ
(يقصد صادقين في رغبتكم في الخلافة).. ونظر الملائكة فيما عرض الله عليهم، فلم يعرفوا أسماءه.. واعترفوا لله بعجزهم عن تسمية الأشياء أو استخدام الرمز في التعبير عنها.. قال الملائكة اعترافا بعجزهم: سُبْحَانَكَ (أي ننزهك ونقدسك)، لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (ردوا العلم كله إلى الله).
قال الله تعالى لآدم:
يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَآئِهِمْ
وحدثهم آدم عن كل الأشياء التي عرضها الله عليهم ولم يعرفوا أسمائها.
قال تعالى في سورة (البقرة):
وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَـؤُلاء إِن كُنتُمْ (31) صَادِقِينَ قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَآئِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ
أراد الله تعالى أن يقول للملائكة إنه علم ما أبدوه من الدهشة حين أخبرهم أنه سيخلق آدم، كما علم ما كتموه من الحيرة في فهم حكمة الله، كما علم ما أخفاه إبليس من المعصية والجحود.. أدرك الملائكة أن آدم هو المخلوق الذي يعرف.. وهذا أشرف شيء فيه.. قدرته على التعلم والمعرفة.. وعرف الملائكة لماذا أمرهم الله بالسجود له.. كما فهموا السر في أنه سيصبح خليفة في الأرض، يتصرف فيها ويتحكم فيها.. بالعلم والمعرفة.. معرفة بالخالق.. وهذا ما يطلق عليه اسم الإيمان أو الإسلام.. وعلم بأسباب استعمار الأرض وتغييرها والتحكم فيها والسيادة عليها.. ويدخل في هذا النطاق كل العلوم المادية على الأرض.
إن نجاح الإنسان في معرفة هذين الأمرين (الخالق وعلوم الأرض) يكفل له حياة أرقى.. فكل من الأمرين مكمل للآخر.
كان آدم يحس الوحدة.. ونام آدم يوما ما فلما استيقظ وجد عند رأسه امرأة تحدق في وجهه بعينين جميلتين ورحيمتين.. وربما دار بينهما هذا الحوار:
قال آدم: لم تكوني هنا قبل أن أنام.
قالت: نعم.
قال: جئت أثناء نومي إذن؟
قالت: نعم
قال: من أين جئت…؟
قالت: جئت من نفسك.. خلقني الله منك وأنت نائم.. ألا تريد أن تستعيدني إليك وأنت مستيقظ؟
قال آدم: لماذا خلقك الله؟
قالت حواء: لتسكن إلي.
قال آدم: حمدا لله.. كنت أحس الوحدة
سألته الملائكة عن اسمها. قال إن اسمها حواء.. سألوه: لماذا سميتها حواء يا آدم؟
قال آدم: لأنها خلقت مني.. وأنا إنسان حي
وأصدر الله تعالى أمره لآدم بسكنى الجنة. قال تعالى في سورة (البقرة):
وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَـذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ
لا نعرف مكان هذه الجنة. سكت القرآن عن مكانها واختلف المفسرون فيها على خمسة وجوه. قال بعضهم: إنها جنة المأوى، وأن مكانها السماء. ونفى بعضهم ذلك لأنها لو كانت جنة المأوى لحرم دخولها على إبليس ولما جاز فيها وقوع عصيان. وقال آخرون: إنها جنة المأوى خلقها الله لآدم وحواء. وقال غيرهم: إنها جنة من جنات الأرض تقع في مكان مرتفع. وذهب فريق إلى التسليم في أمرها والتوقف.. ونحن نختار هذا الرأي. إن العبرة التي نستخلصها من مكانها لا تساوي شيئا بالقياس إلى العبرة التي تستخلص مما حدث فيها.
لم يعد يحس آدم الوحدة. كان يتحدث مع حواء كثيرا، ويستمعان لغناء الخلائق وتسبيح الأنهار، وموسيقى الوجود البكر، قبل أن يعرف الوجود معنى الأحزان والآلام. وكان الله قد سمح لهما بأن يقتربا من كل شيء وأن يستمتعا بكل شيء، ما عدا شجرة واحدة. قال الله لهما قبل دخول الجنة:
وَلاَ تَقْرَبَا هَـذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ
وفهم آدم وحواء أنهما ممنوعان من الأكل من هذه الشجرة. غير أن آدم إنسان، والإنسان ينسى، وقلبه يتقلب، وعزمه ضعيف. واستغل إبليس إنسانية آدم وجمع كل حقده في صدره، واستغل تكوين آدم النفسي.. وراح يثير في نفسه يوما بعد يوم. راح يوسوس إليه يوما بعد يوم:
هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَّا يَبْلَى
تسائل أدم بينه وبين نفسه. ماذا يحدث لو أكل من الشجرة ..؟ ربما تكون شجرة الخلد حقا، وكل إنسان يحب الخلود. ومرت الأيام وآدم وحواء مشغولان بالتفكير في هذه الشجرة. ثم قررا يوما أن يأكلا منها. نسيا أن الله حذرهما من الاقتراب منها. نسيا أن إبليس عودهما القديم. ومد آدم يده إلى الشجرة وقطف منها إحدى الثمار وقدمها لحواء. وأكل الاثنان من الثمرة المحرمة. قال تعالى في سورة (طه):
وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى
ليس صحيحا ما تذكره صحف اليهود من إغواء حواء لآدم وتحميلها مسئولية الأكل من الشجرة. إن نص القرآن لا يذكر حواء. إنما يذكر آدم -كمسئول عما حدث- عليه الصلاة والسلام. وهكذا أخطأ الشيطان وأخطأ آدم. أخطأ الشيطان بسبب الكبرياء، وأخطأ آدم بسبب الفضول. احتقر أحدهما الإنسان، وأراد الآخر أن يجعل نفسه ندا لله بالخلود.
لم يكد آدم ينتهي من الأكل حتى أحس أن صدره ينقبض. أحس الألم والحزن والخجل. اكتشف أنه عار، وأن زوجته عارية. اكتشف أنه رجل وأنها امرأة. وبدأ هو وزوجته يقطعان أوراق الشجر لكي يغطي بهما كل واحد منهما جسده العاري. وأصدر الله تبارك وتعالى أمره بالهبوط من الجنة.
وهبط آدم وحواء إلى الأرض. خرجا من الجنة. كان آدم حزينا وكانت حواء لا تكف عن البكاء. وكانت توبتهما صادقة فتقبل الله منهما التوبة.. وأخبرهما الله أن الأرض هي مكانهما الأصلي.. يعيشان فيهما، ويموتان عليها، ويخرجان منها يوم البعث.
قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ
حكى الله تعالى قصة الدرس الثالث الذي تعلمه آدم خلال وجوده في الجنة وبعد خروجه منها وهبوطه إلى الأرض. قال الله تعالى في سورة (طه):
وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا (115) وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى (116) فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى (117)إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى(118) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى (119) فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَّا يَبْلَى (120) فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121)ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى (122) قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى
يتصور بعض الناس أن خطيئة آدم بعصيانه هي التي أخرجتنا من الجنة. ولولا هذه الخطيئة لكنا اليوم هناك. وهذا تصور ساذج لأن الله تعالى حين شاء أن يخلق آدم قال للملائكة: "إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً" ولم يقل لهما إني جاعل في الجنة خليفة. لم يكن هبوط آدم إلى الأرض هبوط إهانة، وإنما كان هبوط كرامة كما يقول العارفون بالله. كان الله تعالى يعلم أن آدم وحواء سيأكلان من الشجرة. ويهبطان إلى الأرض. كان الله تعالى يعلم أن الشيطان سيغتصب منهما البراءة. وكانت هذه المعرفة شيئا لازما لحياتهما على الأرض. وكانت التجربة كلها ركنا من أركان الخلافة في الأرض. ليعلم آدم وحواء ويعلم جنسهما من بعدهما أن الشيطان طرد الأبوين من الجنة، وأن الطريق إلى الجنة يمر بطاعة الله وعداء الشيطان. هل يقال لنا أن الإنسان ميسر مجبور.. وأن آدم كان مجبورا سلفا على أن يخطئ ويخرج من الجنة ويهبط إلى الأرض. حقيقة إن هذا التصور لا يقل سذاجة عن التصور الأول. كان آدم حرا تمام الحرية. ولهذا تحمل تبعة عمله.
عصى وأكل الشجرة فأخرجه الله من الجنة.. معصيته لا تنافي حريته. بل إنها تستمد وجودها الأصلي من حريته. كل ما في الأمر أن الله كان يعلم سلفا ما سيحدث، يعلم الله الأشياء قبل حدوثها، ولكنه لا يدفعها دفعا أو يقهرها قهرا على الحدوث. إن الله يعطي الحرية لعباده ومخلوقاته.
ويرتب على ذلك حكمته العليا في تعمير الأرض وإقامة الخلافة فيها
فهم آدم الدرس الثالث. فهم أن إبليس عدوه. فهم بشكل عملي أن إبليس هو السبب في فقدانه للنعيم وفي شقائه. فهم أن الله يعاقب على المعصية. وأن الطريق إلى الجنة يمر بطاعة الله. فهم أن الله يقبل التوبة ويعفو ويرحم ويجتبي. علمهما الله تعالى أن يستغفرا قائلين:
قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ
وقبل الله توبته وعفا عنه وأرسله إلى الأرض. أول رسول لأبنائه.
بدأت حياة آدم على الأرض. خرج من الجنة مهاجرا إلى الأرض.. واستن بذلك لأبنائه وأحفاده من الأنبياء سنة الخروج.
لا يكاد النبي يبدأ دعوته إلى ربه حتى يضطره قومه إلى الخروج.. والهجرة.
هناك في الجنة خرج آدم قبل نبوته، وهنا في الأرض يخرج الأنبياء بعد نبوتهم عادة.
عرف آدم أنه ودع السلام حين خرج من الجنة.
__________________________________________________ __________
هنا في الأرض كان عليه أن يواجه شقاء وصراعا لا ينتهي أحدهما إلا ليبدأ الآخر، وكان عليه أن يشقى ليأكل، كان عليه أن يحمي نفسه بالملابس والأسلحة، ويحمي زوجته وأطفاله من الحيوانات والوحوش التي تعيش في الأرض. وكان عليه قبل هذا كله وبعده أن يستمر في صراعه مع روح الشر. إن الشيطان هو السبب في خروجه من الجنة. وهو في الأرض يوسوس له ولأولاده ليدخلهم الجحيم. والمعركة بين الخير والشر لا تتوقف، ومن يتبع هدى الله فلا خوف عليه ولا يحزن. ومن يعص الله، ويتبع المخلوق الناري إبليس فهو معه في النار.
فهم آدم هذا كله مع الشقاء الذي بدأت به حياته على الأرض. الشيء الوحيد الذي كان يخفف حزنه. أنه قد جاء سلطانا عليها. وعليه أن يخضعها، ويستعمرها، ويزرعها ويبنيها ويعمرها، ينجب فيها نسلا يكبرون ويغيرون شكل الحياة ويجعلونه أفضل.
كانت حواء تلد في البطن الواحد ابنا وبنتا. وفي البطن التالي ابنا وبنتا. فيحل زواج ابن البطن الأول من البطن الثاني.. وكبر أبناء آدم وتزوجوا، وملئوا الأرض نسلا.. ودعاهم آدم إلى الله تعالى.
وقدر لآدم أن يشهد أول انحياز من أحد أبنائه لروح الشر إبليس. وقعت أول جريمة قتل على الأرض. قتل أحد أبناء آدم شقيقه. قتل الشرير أخاه الطيب. قال تعالى في سورة (المائدة):
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ
يقال أن القاتل كان يريد زوجة شقيقه لنفسه.. وأمرهما آدم أن يقدما قربانا، فقدم كل واحد منهما قربانا، فتقبل الله من أحدهما ولم يتقبل من الآخر.
قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27) لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَإِلَيْكَ لَأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ
لاحظ كيف ينقل إلينا الله تعالى كلمات القتيل الشهيد، ويتجاهل تماما كلمات القاتل. عاد القاتل يرفع يده مهددا.. قال القتيل في هدوء:
إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاء الظَّالِمِينَ
انتهى الحوار بينهما وانصرف الشرير وترك الطيب مؤقتا. بعد أيام.. كان الأخ الطيب نائما وسط غابة مشجرة.. مات في نفس الغابة حمار عجوز فأكلت النسور لحمه وشربت الأرض دمه وبقي فكه العظمي ملقى على الأرض.. حمله الشرير وتوجه نحو شقيقه النائم، ورفع يده وأهوى بها بعنف وسرعة.
ارتج الوجه الطيب حين انبثق منه الدم واستيقظ، كان يحلم وهو نائم وترتسم على شفتيه ابتسامة فغطت دماؤه بسمته.. وعاد القتيل ينهال على شقيقه حتى سكنت حركته.. أدرك القاتل أن شقيقه فارق الحياة.
جلس القاتل أمام القتيل ساكنا مصفر الوجه. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تقتل نفس ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها لأنه كان أول من سن القتل". جلس القاتل أمام شقيقه المضرج في دمه. ماذا يقول لأبيه آدم لو سأل عنه؟ لقد شاهدهما يخرجان معا. فكيف يعود وحده؟ ولو أنكر أمام أبيه أنه قتل شقيقه، فأين يخفي جثته؟ أين يذهب بها؟ كان هذا الأخ القتيل أول إنسان يموت على الأرض.. ولم يكن دفن الموتى شيئا قد عرف بعد. وحمل الأخ جثة شقيقه وراح يمشي بها.. مزق الهواء صوت طائر يصرخ. أفزعته الصرخة وملأت نفسه بشؤم مجهول. التفت القاتل، فوجد غرابا حيا يصرخ فوق جثة غراب ميت. وضع الغراب الحي الغراب الميت على الأرض وساوى أجنحته إلى جواره وبدأ يحفر الأرض بمنقاره ووضعه برفق في القبر ثم صرخ صرختين قصيرتين وعاد يهيل عليه التراب.. بعدها طار في الجو وهو يصرخ.
وقف القاتل وانكفأ على جثة شقيقه.. صرخ:
قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَـذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءةَ أَخي
اندلع حزنه على أخيه كالنار فأحرقه الندم. اكتشف فجأة. اكتشف أنه وهو الأسوأ والأضعف، قد قتل الأفضل والأقوى. نقص أبناء آدم واحدا. وكسب الشيطان واحدا من أبناء آدم. واهتز جسد القاتل ببكاء عنيف ثم أنشب أظافره في الأرض وراح يحفر قبر شقيقه. قال آدم حين عرف القصة:
هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ
وحزن حزنا شديدا على خسارته في ولديه. مات أحدهما، وكسب الشيطان الثاني.
صلى آدم على ابنه، وعاد إلى حياته على الأرض: إنسانا يعمل ويشقى ليصنع خبزه. ونبيا يعظ أبنائه وأحفاده ويحدثهم عن الله ويدعوهم إليه، ويحكي لهم عن إبليس ويحذرهم منه. ويروي لهم قصته هو نفسه معه، ويقص لهم قصته مع ابنه الذي دفعه لقتل شقيقه.
وكبر آدم. ومرت سنوات وسنوات.. وعلى فراش من أغصان الشجر والورد يرقد آدم بلحيته البيضاء ووجهه الطيب. أبناؤه جميعا يقفون حوله في انتظار وصيته. وتحدث آدم فأفهم أبناءه أن هناك سفينة واحدة لنجاة الإنسان، وسلاحا واحدا لانتصاره، هذه السفينة هي هدى الله، وهذا السلاح هو كلمات الله.
طمأن آدم أبناءه بأن الله لن يترك الإنسان وحده على الأرض.. إنما سيرسل أنبياءه لهدايته وإنقاذه. وسيختلف الأنبياء في الأسماء والصفات والمعجزات.. ولكنهم سيجمعون على شيء واحد: الدعوة إلى عبادة الله وحده.
وتلك كانت وصية آدم لأبنائه.
انتهى آدم من وصيته وأغمض عينيه، دخل الملائكة حجرته وأحاطوا به وتعرف بينهم على ملك الموت.. وابتسم قلبه للسلام العميق.. وهبت على روحه رائحة أزهار الجنة.
__________________________________________________ __________
--------------------------------------------------------------------------------
قال الله تبارك وتعالى:
وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث إنا وجدناه صابراً نعم العبد إنه أواب (44) {سورة يوسف}
نسبه عليه السلام
قيل هو أيوب بن موص بن رازخ بن العيص بن إسحاق بن إبراهيم الخليل وقيل غير ذلك في نسبه، الا أن الثابت أنه من
ذرية إبراهيم الخليل عليه السلام.وحُكي أن أمه بنت نبي الله لوط عليه السلام. وأما زوجته فقيل: إن اسمها رحمة بنت يوسف بن يعقوب،
وقيل غير ذلك. وكان عليه الصلاة والسلام عبدًا تقيًا شاكرًا لأنعم الله رحيمًا بالمساكين، يُطعم الفقراء ويعين الأرامل ويكفل الأيتام، ويكرم الضيف،
ويؤدي حق الله عليه على أكمل وجه.
إبتلاء الله لأيوب عليه السلام
يقول الله تبارك وتعالى: واذكر عبدنا أيوب إذ نادى ربه أنى مسنى الشيطان بنصب وعذاب (41) {سورة ص}
كان أيوب كثير المال ءاتاه الله الغنى والصحة والمال وكثرة الأولاد، وابتلاء بالنعمة والرخاء ولم تفتنه زينة الحياة الدنيا ولم تخدعه ولم تشغله
عن طاعة الله، وكان عليه السلام يملك الأراضي المتسعة من أرض حوران، ثم ابتلاه الله بعد ذلك بالضر الشديد في جسده وماله وولده فقد ذهب
ماله ومات أولاده جميعهم، فصبر على ذلك صبرا جميلا ولم ينقطع عن عبادة ربه وشكره، وفوق هذا البلاء الذي ابتلي به في أمواله وأولاده،
ابتلاه الله بأنواع من الأمراض الجسيمة في بدنه حتى قيل: إنه لم يبقى من جسده سليمًا إلا قلبه ولسانه يذكر الله عزوجل بهما، وهو في كل هذا
البلاء صابر محتسب يرجو ثواب الله في الآخرة، ذاكرًا لمولاه في جميع أحواله في ليله ونهاره وصباحه ومسائه.
وطال مرضه عليه الصلاة والسلام ولزمه ثماني عشرة سنة وكانت زوجته لا تفارقه صباحًا ولا مساء إلا بسبب خدمة الناس بالأجرة لتطعمه وتقوم بحاجاته،
وكانت تحنو عليه وترعى له حقه وتعرف قديم إحسانه إليها وشفقته عليها وحسن معاشرته لها في حالة السراء، لذلك كانت تتردد إليه فتصلح من شأنه وتعينه
على قضاء حاجته ونوائب الدهر، وكانت تخدم الناس لتطعمه الطعام وهي صابرة محتسبة ترجو الثواب من الله تبارك وتعالى.
دعاء أيوب لله تعالى
كثرت البلايا والأمراض على نبي الله أيوب عليه الصلاة والسلام طيلة ثماني عشرة سنة، وهو صابر محتسب يرجو الثواب من الله تعالى، فدعا الله
وابتهل إليه بخشوع وتضرع قائلا: وأيوب إذ نادى ربه أنى مسنى الضر وأنت أرحم الراحمين (83) {سورة الأنبياء}
ثم خرج عليه السلام لقضاء حاجته وأمسكت زوجته بيده إلى مكان بعيد عن أعين الناس لقضاء حاجته فلما فرغ عليه السلام أوحى الله تبارك وتعالى
إليه في مكانه: أركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب (42) {سورة ص}
فأمره الله تعالىأن يضرب برجله الأرض، فامتثل عليه السلام ما أمره الله به وأنبع الله تبارك وتعالى له بمشيئته وقدرته عينين فشرب من إحداهما
واغتسل من العين الأخرى فأذهب الله عنه ما كان يجده من المرض وتكاملت العافية وأبدله بعد ذلك صحة ظاهرة وباطنة، ولما استبطأته زوجته وطال
انتظارها، أقبل نبي الله أيوب عليه السلام إليها سليمًا صحيحًا على أحسن ما كان فلما رأته لم تعرفه فقالت له: بارك الله فيك هل رأيت نبي الله أيوب هذا
المبتلى؟ فوالله على ذلك ما رأيت رجلا أشبه به منك إذ كان صحيحًا، فقال لها عليه الصلاة والسلام: فإني أنا هو.
وكان لنبي الله أيوب عليه السلام بيدران بيدر للقمح وبيدر للشعير فبعث الله تبارك وتعالى بقدرته سحابتين، فلما كانت إحداهما على بيدر القمح أفرغت فيه
الذهب حتى فاض، وأفرغت السحابة الأخرى على بيدر الشعير الفضة حتى فاض وعم، وبينما كان أيوب عليه السلام يغتسل خرّ عليه وسقط جراد من ذهب
وهذا إكرام من الله تعالى لنبيه أيوب عليه السلام ومعجزة له، فشرع عليه السلام يحثي ويجمع في الثوب الذي كان معه استكثارًا من البركة والخير الذي
رزقه الله إياه، فناداه ربه: يا أيوب ألم أكن أغنيتك عما ترى، فقال عليه الصلاة والسلام: بلى يا رب، ولكن لا غنى لي عن بركتك، رواه البخاري وأحمد
من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا، ورواه أحمد في مسنده موقوفًا، ورواه بنحوه ابن أبي حاتم وأحمد في مسنده وابن حبان في صحيحه بإسناد على شرط الصحيح.
وأغنى الله تبارك وتعالى عبده أيوب بالمال الكثير بعد أن كان قد فقد أمواله، ورد الله تبارك وتعالى لأيوب عليه السلام أولاده فقد قيل: أحياهم الله تبارك وتعالى
له بأعيانهم، وزاده مثلهم معهم فضلا منه وكرمًا، والله يؤتي فضله من يشاء ويرزق من يشاء بغير حساب.
يقول الله تبارك وتعالى:
وأيوب إذ نادى ربه أنى مسنى الضر وأنت أرحم الراحمين (83) فإستجبنا له فكشفنا ما به من ضر وءاتيناه أهله ومثلهم معهم رحمة من عندنا وذكرى للعابدين (84) {سورة الأنبياء}
أيوب يبر بيمينه ولا يحنث ضاق الحال بزوجة أيوب عليه السلام ذات يوم فباعت نصف شعرها لبعض بنات الملوك فصنعت له من ثمنه طعامًا فحلف
أيوب عليه الصلاة والسلام أن شفاه الله تعالى ليضربنها مائة جلدة، ولما أراد أيوب عليه الصلاة والسلام أن يبر بيمينه بعد شفائه أمره الله أن يأخذ ضغثًا وهو
الحزمة من الحشيش أو الريحان أو ما أشبه ذلك فيه مائة قضيب فيضرب بها زوجته ضربة واحدة وبذلك لا يحنث في يمينه، ولقد شرع الله تعالى له ذلك رحمة
بها ولحسن خدمتها إياه وشفقتها عليه أثناء مرضه ومصائبه التي ابتلي بها طوال الثماني عشرة سنة التي ابتلاه الله بها، ولأنها كانت امرأة مؤمنة صالحة تقية صابرة
تؤدي حق زوجها عليها وتحسن معاشرته في السراء والضراء، وهذا من الفرج والمخرج لمن اتقى الله تعالى وأناب إليه وخافه.
موت أيوب عليه السلام
لقب نبي الله أيوب عليه السلام بالصديق وضرب به المثل في الصبر بسبب صبره الجميل طيلة الثماني عشرة سنة على المصائب والبلايا، وعاش أيوب
عليه الصلاة والسلام بعد رفع الضر والمصائب عنه مسارعًا في طاعة الله لا تغره الحياة الدنيا وزهرتها يؤدي ما فرض الله عليه ويدعو إلى دين الإسلام
وعبادة الله وحده لا شريك له ويستعمل ما رزقه الله من أموال كثيرة في طاعة الله، إلى أن توفاه الله وهو عنه راض.
وقيل إنه لما توفي كان عمره ثلاثًا وتسعين سنة، وقيل أكثر من ذلك.
عصمة أيوب من الأمراض المنفرة
اعلم رحمك الله بتوفيقه أن علماء العقيدة قد قرروا أن أنبياء الله ورسله هم صفوة خلق الله، فيجب للأنبياء الصدق ويستحيل عليهم الكذب،
ويجب لهم الفطانة(الذكاء)ويستحيل عليهم البلادة والغباوة، ويجب لهم الصيانة فيستحيل عليهم الرذيلة والسفاهة والجبن، ويجب لهم الأمانة
ويستحيل عليهم الخيانة، فالأنبياء سالمون من الكفر وكبائر الذنوب وصغائر الخسة كسرقة حبة عنب، وكذلك يستحيل عليهم الأمراض المنفرة
التي تنفر الناس عنهم، وهذا من العصمة الواجبة لهم.
__________________________________________________ __________
السلام عليكم
شعيب عليه السلام
ملخص قصة شعيب عليه السلام
أرسل شعيب إلى قوم مدين وكانوا يعبدون الأيكة وكانوا ينقصون المكيال والميزان ولا يعطون الناس حقهم فدعاهم إلى عبادة الله وأن يتعاملوا بالعدل ولكنهم أبوا واستكبروا واستمروا في عنادهم وتوعدوه بالرجم والطرد وطالبوه بأن ينزل عليهم كسفا من السماء فجاءت الصيحة وقضت عليهم جميعا.
لقد برز في قصة شعيب أن الدين ليس قضية توحيد وألوهية فقط، بل إنه كذلك أسلوب لحياة الناس.. أرسل الله تعالى شعيبا إلى أهل مدين.
وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ
نفس الدعوة التي يدعوها كل نبي.. لا تختلف من نبي إلى آخر.. لا تتبدل ولا تتردد. هي أساس العقيدة.. وبغير هذه الأساس يستحيل أن ينهض بناء.
بعد تبيين هذا الأساس.. بدأ شعيب في توضيح الأمور الاخرى التي جاءت بها دعوته:
وَلاَ تَنقُصُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّيَ أَرَاكُم بِخَيْرٍ وَإِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ
بعد قضية التوحيد مباشرة.. ينتقل النبي إلى قضية المعاملات اليومية.. قضية الأمانة والعدالة.. كان أهل مدين ينقصون المكيال والميزان، ولا يعطون الناس حقهم.. وهي رذيلة تمس نظافة القلب واليد.. كما تمس كمال المروءة والشرف، وكان أهل مدين يعتبرون بخس الناس أشياءهم.. نوعا من أنواع المهارة في البيع والشراء.. ودهاء في الأخذ والعطاء.. ثم جاء نبيهم وأفهمهم أن هذه دناءة وسرقة.. أفهمهم أنه يخاف عليهم بسببها من عذاب يوم محيط.. انظر إلى تدخل الإسلام الذي بعث به شعيب في حياة الناس، إلى الحد الذي يرقب فيه عملية البيع والشراء.
وَيَا قَوْمِ أَوْفُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ
لم يزل شعيب ماضيا في دعوته.. ها هو ذا يكرر نصحه لهم بصورة إيجابية بعد صورة النهي السلبية..إنه يوصيهم أن يوفوا المكيال والميزان بالقسط.. بالعدل والحق.. وهو يحذرهم أن يبخسوا الناس أشيائهم.
لنتدبر معا في التعبير القرآني القائل:
وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ
وكلمة الشيء تطلق على الأشياء المادية والمعنوية.. أي أنها ليست مقصورة على البيع والشراء فقط، بل تدخل فيها الأعمال، أو التصرفات الشخصية. ويعني النص تحريم الظلم، سواء كان ظلما في وزن الفاكهة أو الخضراوات، أو ظلما في تقييم مجهود الناس وأعمالهم.. ذلك أن ظلم الناس يشيع في جو الحياة مشاعر من الألم واليأس واللامبالاة، وتكون النتيجة أن ينهزم الناس من الداخل، وتنهار علاقات العمل، وتلحقها القيم.. ويشيع الاضطراب في الحياة.. ولذلك يستكمل النص تحذيره من الإفساد في الأرض:
وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ (85) بَقِيَّةُ اللّهِ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ
العثو هو تعمد الإفساد والقصد إليه (وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ).. لا تفسدوا في الأرض متعمدين قاصدين (بَقِيَّةُ اللّهِ خَيْرٌ لَّكُمْ).. ما عند الله خير لكم.. (إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ).
بعدها يخلي بينهم وبين الله الذي دعاهم إليه.. ينحي نفسه ويفهمهم أنه لا يملك لهم شيئا.. ليس موكلا عليهم ولا حفيظا عليهم ولا حارسا لهم.. إنما هو رسول يبلغهم رسالات ربه:
وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ
بهذا الأسلوب يشعر شعيب قومه بأن الأمر جد، وخطير، وثقيل.. إذ بين لهم عاقبة إفسادهم وتركهم أمام العاقبة وحدهم.
كان هو الذي يتكلم.. وكان قومه يستمعون.. توقف هو عن الكلام وتحدث قومه:
قَالُواْ يَا شُعَيْبُ أَصَلاَتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاء إِنَّكَ لَأَنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ
كان أهل مدين كفارا يقطعون السبيل، ويخيفون المارة، ويعبدون الأيكة.. وهي شجرة من الأيك حولها غيضة ملتفة بها.. وكانوا من أسوأ الناس معاملة، يبخسون المكيال والميزان ويطففون فيهما، ويأخذون بالزائد ويدفعون بالناقص.. انظر بعد هذا كله إلى حوارهم مع شعيب: (قَالُواْ يَا شُعَيْبُ أَصَلاَتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا)... ؟
بهذا التهكم الخفيف والسخرية المندهشة.. واستهوال الأمر.. لقد تجرأت صلاة شعيب وجنت وأمرته أن يأمرهم أن يتركوا ما كان يعبد آباؤهم.. ولقد كان آباؤهم يعبدون الأشجار والنباتات.. وصلاة شعيب تأمرهم أن يعبدوا الله وحده.. أي جرأة من شعيب..؟ أو فلنقل أي جرأة من صلاة شعيب..؟ بهذا المنطق الساخر الهازئ وجه قوم شعيب خطابهم إلى نبيهم.. ثم عادوا يتساءلون بدهشة ساخرة:
أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاء
تخيل يا شعيب أن صلاتك تتدخل في إرادتنا، وطريقة تصرفنا في أموالنا.. ما هي علاقة الإيمان والصلاة بالمعاملات المادية؟
بهذا التساؤل الذي ظنه قوم شعيب قمة في الذكاء.. طرحوا أمامه قضية الإيمان، وأنكروا أن تكون لها علاقة بسلوك الناس وتعاملهم واقتصادهم. هذه المحاولة للتفريق بين الحياة الاقتصادية والإسلام، وقد بعث به كل الأنبياء، وإن اختلفت أسماؤه.. هذه المحاولة قديمة من عمر قوم شعيب.