عنوان الموضوع : تحقيق التوحيد لابن عثيمين من الشريعة
مقدم من طرف منتديات نساء الجزائر
تحقيق التوحيد لابن عثيمين
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مضلَّ له، ومَن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومَن تبعهم بإحسان، وسلّم تسليمًا .
أما بعد:
أيها المؤمنون، اتَّقوا الله تعالى واشْكروه على ما مَنَّ به عليكم أن بعث فيكم رسولاً منكم يتلو عليكم آياته ويزكِّيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة، رسولاً أخرجكم الله به من الظلمات إلى النور: من ظلمات الجهل إلى نور العلم، ومن ظُلماتِ الشرك والكفر إلى نور التوحيد والإيمان، ومن ظُلماتِ الجور والإساءة إلى نور العدل والإحسان، ومِنْ ظُلماتِ الفوضى الفكريَّة والاجتماعية إلى نور الاستقامة في الهدفِ والسلوك، ومن ظُلماتِ القلق النفسي وضيقِ الصدر إلى نور الطمأنينة وانشراح الصدر، +أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ" [الزمر: 22]، +كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1) اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ" [إبراهيم: 1-2] .
لقد بعث الله نبيَّه محمدًا - صلى الله عليه وسلم - والناس يتخبّطون في الجهالاتِ والضلالات، ففتح لهم به أبوابَ العلم في معرفة الله وما يستحقه من الأسماء والصفات وما له من الأفعال والحقوق وأبواب العلم في معرفة المخلوقات في المبدإ والمنتهى والحساب والجزاء، قال الله عزَّ وجل: +وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آَخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14) ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ (15) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ" [المؤمنون: 12-16]، مَن الذي علّمنا هذا التطور منذ خُلق الإنسان إلى يوم البعث إلا الله - عزَّ وجل - في الوحي الذي أنزله على محمد صلى الله عليه وسلم .
وفتح الله لعباده بما بعثَ به نبيَّه محمدًا - صلى الله عليه وسلم - أبواب العلم في عبادة الله والسير إليه، وأبواب العلم في السعي في مناكب الأرض وابتغاء الرزق بوجهٍ حلال، فما مِنْ شيء يحَتاج الناس إلى معرفته من أُمور الدين والدنيا إلا بَيَّن لهم ما يحتاجون إليه فيه حتى صاروا «على طريقة بيضاء نقيّة؛ ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك»(1) ولا يتيهُ فيها إلا أعمى القلب .
أيها المؤمنون، إنها لَنِعمةٌ كبرى، علينا أن نحمدَ الله عليها وأن نتمسَّك بما جاء به نبيُّنا محمد صلى الله عليه وسلم، وأن نَعضّ عليه بالنواجذ؛ حتى لا يذهب إلى غيرنا فإن الله يقول: +وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ" [محمد: 38]، ويقول: +فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ" [الأنعام: 89] .
لقد بعث الله محمدًا - صلى الله عليه وسلم - والناس منغمسون في الشرك في شتى أنواعه: فمنهم مَن يعبدُ المسيح ابن مريم، ومنهم مَن يعبد الأصنام، ومنهم مَن يعبد الأشجار، ومنهم مَن يعبد الأحجار حتى كان الواحد منهم إذا سافرَ ونزلَ أرضًا أخذ منها أربعة أحجار، فيضع ثلاثة منها تحت القِّدر وينصبُ الرابع إلهًا يعبده .
هكذا عقول الخلق قبل بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم، حجر يؤخذ من الأرض بل أربعة أجحار تؤخذ من الأرض: ثلاثة منها تحت القدر مناصب له وواحد يُنصب إلهًا يُعبد.
فأنقذَهم الله برحمته، أنقذَهم الله بهذا الرسول من هذه الهوَّة الساحقة والسَّفه البالغ من عبادة الأوثان إلى عبادة الرحمن، فحقَّقَ التوحيد لرب العالمين تحقيقًا بالغًا وذلك: بأن تكون العبادة لله وحده يتحقَّق فيها الإخلاص لله بالقصد والمحبَّة والتعظيم، فيكون العبد مُخلصًا لله في قصده، مُخلصًا لله في محبَّتهِ، مُخلصًا لله في تعظيمهِ، مُخلصًا لله في ظاهرهِ وباطنهِ، لا يبتغي بعبادته إلا وجه الله والوصول إلى دار كرامتهِ، +قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ" [الأنعام: 162-163]، +وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ" [الزمر: 54]، +وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ" [البقرة: 163]، +فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا" [الحج: 34]، هكذا جاء كتاب الله وتلَتْهُ سنَّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بتحقيق التوحيد وإخلاصه وتخليصِهِ من كل شائبة وسدِّ كل طريق يمكن أن يُوصل إلى ثلمِ هذا التوحيد أو إِضعافه؛ حتى إن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: «ما شاء الله وشئت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أَجَعَلْتَني لله ندًّا، بل ما شاء الله وحده»(2)، فأنْكَرَ النبي - صلى الله عليه وسلم - على هذا الرجل أن يَقرِنَ مشيئته بمشيئة الله بحرفٍ يقتضي التسوية بينهما، وجعل ذلك من اتخاذ النِّد لله عزَّ وجل، واتخاذ النِّد لله تعالى إشراكٌ به .
وإنني بهذه المناسبة أُحذِّر بعض الناس الذين يضعون على جدرانهم لافتاتٍ مكتوب عليها من الجانب الأيمن «الله» ومن الجانب الأيسر «محمد» حذاءً بحذاء؛ أي: وزنًا بوزن فيساوون النبي - صلى الله عليه وسلم - بالله عزَّ وجل، وهذا نوعٌ من الشرك، وتعليق هذه اللافتات من أصلِه بدعة لا أصل لها من الشرع ما اتَّخذها الصحابة ولا التابعون .
وحرَّم النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يَحلف بغير الله وجعل ذلك من الشرك بالله فقال صلى الله عليه وسلم: «مَن حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك»(3)؛ وذلك لأن الحلف بغير الله تعظيمٌ للمحلوف به بما لا يستحقه إلا الله عزَّ وجل، فلا يجوز للمسلم أن يقول عند الحلف: «والنبي»، أو «وحياة النبي»، أو «وحياتي»، أو «وحياة فلان» أو «والوطن» أو «والقوميَّة» أو ما أشبه ذلك، بل لا يَحلف إلا بالله وحده أو يَصمت عن الحلف .
ولما سُئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الرجل يلقى أخاه فيسلِّم عليه أَيَنْحَني له ؟ قال: لا، فمنَعَ النبي - صلى الله عليه وسلم - من الانحناء عند التسليم؛ لأن ذلك خضوعٌ لا ينبغي إلا لله رب العالمين، فهو سبحانه وحده الذي يُركع له ويُسجد، وكان السجود عند التحيّة جائزًا في بعض الشرائع السابقة ولكن هذه الشريعة الكاملة شريعة محمد - صلى الله عليه وسلم - منعت منه وحرَّمته إلا لله وحده .
وفي الحديث أن معاذ بن جبل - رضي الله عنه - قدِم الشام فوجدهم يسجدون لأساقفتهم - يعني: زعماءهم - وذلك قبل أن يُسْلم أهل الشام، فلمَّا رجع معاذ سجدَ للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما هذا يا معاذ ؟ فقال: رأيتهم يسجدون لأساقفتهم وأنت أحقُّ أن يُسجد لك يا رسول الله - يعني: أحق من أساقفتهم بالسجود - فقال النبي الله صلى الله عليه وسلم: «لَوْ كُنْتُ آمِرًا أَحَدًا أَنْ يَسْجُدَ لأَحَدٍ لأَمَرْتُ الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا»(5) من عظم حقِّه عليها .
وروى النسائي بسندٍ جيِّد عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - «أن ناسًا جاؤوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: يا رسول الله، يا خيرنا وابن خيرنا وسيِّدنا وابن سيِّدنا، فقال النبي الله صلى الله عليه وسلم: قولوا بقولكم ولا يستهوينكم الشيطان، أنا محمد عبد الله ورسوله، ما أُحبّ أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله عزَّ وجل»(6)، هكذا قال صلى الله عليه وسلم: «أنا محمد عبد الله ورسوله، ما أُحبّ أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله عزَّ وجل» مع أنه صلى الله عليه وسلم خير الخلق وسيِّد الخلق بلا ريب لكنَّه خاف أن يستهويهم الشيطان فيوقع في قلوبهم الغلو حتى يرفعوا نبيَّ الله - صلى الله عليه وسلم - ورسوله فوق منزلته وهي العبودية والرسالة حمايةٌ لجانب التوحيد وسدٌّا لِطُرقه الموصلة إليه قوليةً كانت أم فعليَّة .
ولقد سمعتم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنكرَ على مَن قال: ما شاء الله وشئت، وقال: أجعلتني لله ندًّا، فإذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - أنكر على مَن قرن مشيئته بمشيئة الله بحرفٍ يقتضي المساواة، فكيف بِمَن جعل المشيئة للمخلوق وحده دون الله غلوًّا ومدحًا حين قال بعض الشعراء يمدح مَن يخاطبه، يقول:
ما شئتَ لا ما شاءت الأقدارُ
فاحكم فأنتَ الواحدُ القهارُ(8)
يقولها لبشرٍ ليس يقوله لله عزَّ وجل، فتعالى الله عمَّا يقول الكافرون الظالمون علوًّا كبيرًا .
إن هذا يقول: ما شئت فاحكم لا ما شاءته الأقدار فحكمُك فوق أقدار الله، فسبحان الله رب العرش عما يصفون .
أيها الناس، إن على المرء أن يُراعي جانب التوحيد، وأن يعرف للخالق حقَّه فلا ينقصه ولا يُشرك به معه غيره لا باللفظ ولا بالفعل ولا بالقلب، وإن عليه أن يعرف للمخلوق حقه ويقوم بما أوجب الله عليه منه ولا يُنزله في منزلة الخالق لا باللفظ ولا بالفعل ولا بالقلب، فللخالق حقه المختص به لا يشركه فيه غيره، وللمخلوق حقه الواجب إعطاؤه له .
إن على المرء أن يعلم أنه مسؤول عمَّا في ضميره، ومسؤول عمّا ينطق به لسانه، ومسؤول عمّا يفعله في جوارحه، فاستمعوا قول الله - عزَّ وجل - عن الضمير: +يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ (9) فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا نَاصِرٍ" [الطارق: 9-10]، واستمعوا قوله: +أَفَلا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ (9) وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ" [العاديات: 9-10]، واستمعوا قول الله عن اللسان: +إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17) مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18) وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ" [ق: 17-20] .
استمعوا هذه الآيات وتأمَّلوا +مِنْ قَوْلٍ" «قول»: نكرة في سياق النفي مؤكدة بـ «مِن» فتفيد العموم في كل قول: ما من قول يلفظ به الإنسان إلا لديه رقيب عتيد، ثم تأمَّلوا ما أعقبه به في قوله: +وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ" [ق: 19]؛ لتذْكروا سكرة الموت إذا أردتم القول وتذْكروا يوم الوعيد فلا تقولوا ما يوقعكم في الوعيد، واستمعوا قول الله تعالى عن الفعل: +وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ" [الانفطار: 10-12]، واستمعوا قوله تعالى: +يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ" [النور: 24-25] .
فيا عباد الله، إن شأن التوحيد لعظيم وإن الإخلاص فيه لدقيق؛ ولهذا قال بعض السلف: ما عالجتُ نفسي في شيء معالجتها على الإخلاص .
إن التوحيد هو الذي بُعثت من أجله الرسل، +وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ" [الأنبياء: 25] .
فاجتهدوا - رحمكم الله - في تحقيق توحيدكم لله بإفراده بما هو أهله من صفات الكمال وبما يستحقه من التعظيم والأعمال، +وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ" [البقرة: 235]، +وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ" [البقرة: 223] .
اللهم حقِّقْ لنا الإخلاص والتوحيد، واجعلنا لك مُخلصين وإليك منيبين، اللهم إنا نسألك عبادة عن علم وبصيرة ونسألك دعوة إليك عن حق وإخلاص يا رب العالمين .
اللهم أَصْلح قلوبنا واغفر ذنوبنا وأَصْلح لنا شأننا كله؛ إنك على كل شيء قدير .
اللهم صلِّ وسلّم على عبدك ونبيّك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدًا كثيرًا كما أمر، وأشْكره وقد تأذن بالزيادة لمن شكر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولو كَرِهَ ذلك مَن أشرك به وكفر، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله سيّد البشر، الشافع المشفّع بالمحشر، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه خير صحب ومعشر، وعلى التابعين لهم بإحسان ما بدا الفجر وأنور، وسلَّم تسليمًا كثيرًا .
أما بعد:
فإن من أعظم منَّةٍ مَنَّ الله بها على عباده بل هي أعظم منَّةٍ مَنَّ بها على عباده لمن هداه إليها، قال الله تعالى: +لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ" [آل عمران: 164] .
بُعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم- على «رأس الأربعين»(7) من عمره الشريف صلى الله عليه وسلم، «فكان أول ما بعث كان لا يَرى رؤية إلا جاءت مثل فلق الصبح»(9) «وذلك ابتداءً من ربيع الأول»(م1) ثم نزل عليه القرآن في رمضان لقوله تعالى: +شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ" [البقرة: 185]، «فبقي ستة أشهر وكان الوحي يأتيه بصفة الرؤيا، فكان لا يرى رؤية إلا جاءت مثل فلق الصبح»(م2) «أما ولادته فإنها كانت في ربيع الأول وكانت في الليلة التاسعة منه وليست في الليلة الثانية عشرة»(م3)، ولا يهمنا أن تكون في الليلة التاسعة أو الثانية عشرة من شهر ربيع الأول، إنما الذي يهمنا ما أحدثه فيها بعض المسلمين من إقامة الصلوات على رسول الله - صلى الله عليه وسلم- واتخاذ تلك الليلة عيدًا يحتفلون بها ويجتمعون صغارًا وكبارًا، رجالاً ونساءً على صيغ صلوات يوردونها لم تكن مألوفة ولا معروفة في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا أصحابه ويُنشدون ما كان غلوًا في رسول الله صلى الله عليه وسلم، غلوًّا يخرج به عن العبودية والرسالة إلى مرتبة الإلوهيَّة والربوبيَّة، ينشدون ما قاله الشاعر يُخاطب النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد موته بأزمنة يقول:
يا أكرم الخلق مالي من ألـوذ بـه
سواك عند حلول الحادث العمم
إن لم تكن في معادي آخـذاً بيدي
فضلاً وإلا فقـل يا زلة الـقدم
فإن من جُـودك الدنيا وضرتهـا
ومن علومك علم اللوح والقلم(10)
هكذا يصفون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بهذه الصفات التي لا يجوز أبدًا أن تكون إلا لله عزَّ وجل، وإن في قولهم:
فإن من جُـودك الدنيا وضرتهـا
ومن علومك علـم اللـوح والقلـم
بهذا القول: إنكار لربوبية الله؛ لأنه إذا كان من علوم الرسول - صلى الله عليه وسلم - عِلم اللوح والقلم، وكان من جوده الدنيا وضرتها وهي: الآخرة، فما الذي يكون لله عزَّ وجل، إنهم في هذا القول يُنكرون أن تكون الدنيا لله أو أن الآخرة لله - عزَّ وجل - وهذا كفرٌ بَواحٌ لا شك فيه ومع ذلك يعتقدون أنهم بهذا القول يرضون الله ورسوله ويتقربون إلى الله - عزَّ وجل- وهم واللهِ بهذا القول مغضبون لله ورسوله وللمؤمنين جميعًا وهم لم يتقربوا إلى الله به بل ازدادوا به بُعدًا من الله عزَّ وجل، وإن الاحتفال بليلة المولد من البدع التي قال عنها رسول صلى الله عليه وسلم: «إياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار»(11) .
إذا كانت هذه بدعة وأقول: إنها بدعة؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يفعلها ولم يُقيمها، وأقول: إنها بدعة؛ لأن الخلفاء الراشدين لم يفعلوها ولم يقيموها، وأقول: إنها بدعة؛ لأن الصحابة بعد الخلفاء الراشدين لم يفعلوها ولم يقيموها، وأقول: إنها بدعة؛ لأن التابعين لم يفعلوها ولم يقيموها، وأقول: إنها بدعة؛ لأن تابع التابعين لم يفعلوها، ولم يقيموها، فقد مضت القرون المفضلة الثلاثة التي قال فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم»(12)، فأين تكون هذه العبادة إذا كان هؤلاء القرون لم يفعلوها، أهم جاهلون بها ؟ أم هم عالمون ولكنهم استنكفوا عنها واستكبروا عنها ؟ كلا الاحتمالين باطل؛ وبهذا يُعلم بطلان هذه البدعة وأنها لا تزيد فاعلها من الله إلا بُعدًا .
فيا عباد الله، يأيها المؤمنون بالله ورسوله، إن كنتم تريدون حقًا محبة الله ورسوله وتعظيم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلا تُحدِثوا في دينه ما ليس منه، لا تشرعوا للناس أمرًا لم يشرعه الله لهم لا في كتابه ولا على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - ولا مِنْ فعل الخلفاء الراشدين الذين أُمرنا باتباعهم، إذا كنتم صادقين في محبة الله ورسوله وتعظيم رسول الله فتأدبوا بين يدي الله ورسوله، لا تُحدثوا في دين الله ما ليس منه فتكونوا ممن عصيتم الله عزَّ وجل؛ فإن الله - تعالى - يقول: +يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ" [الحجرات: 1] .
أيها المسلمون، إن كلَّ عبادة لا يمكن أن تكون مقبولة عند الله حتى يجتمع فيها مع الإخلاص لله - عزَّ وجل - ستة أمور: وذلك بأن تكون موافقة لما جاء به الشرع في سببها، وفي جنسها، وفي مقدارها، وفي كيفيها، وفي زمانها وفي مكانها، فإذا لم توافق الشرع في هذه الأمور الستة فإنها مردودة على صاحبها غير مقبولة منه؛ كما جاء في قول النبي صلى الله عليه وسلم: «مَن عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد»(13) .
وإننا - وللهِ الحمد - في هذه البلاد بما مَنّ الله به علينا من علماء مخلصين مبيِّنين للشريعة وحكام يساعدونهم في ذلك، لا نجد هذه البدعة في بلادنا - ولله الحمد - ولكننا نسمع بها في بلاد المسلمين وفي بلادنا الآن من الأمة الإسلامية كثير؛ ولهذا كان واجب علينا أن نتكلم فيها ليتبيَّن لإخواننا هؤلاء أنها - أعني: الاحتفال بعيد ميلاد الرسول صلى الله عليه وسلم - ليست من شرع الله وليست من دين الله بل هي بدعة وكل بدعة ضلالة وأرجو منهم أن يكونوا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه وأن يكونوا ممن يدعون إلى الله ويُبلغون إخوانهم في بلادهم بأنها من البدع حتى يكونوا داخلين في قول الله تعالى: +وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ" [فصلت: 33] .
واعلموا - أيها المسلمون - أن خير ما تعبدتم به وخير ما اتبعتموه كتاب الله - عزَّ وجل - وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ «فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة في دين الله بدعة وكل بدعة ضلالة»(14)، «وكل ضلالة في النار»(15)، «فعليكم بالجماعة؛ فإن يد الله على الجماعة، ومَن شَذَّ شَذَّ في النار»(16)، واعلموا بأن الله أمركم بأمرٍ بدأ فيه بنفسه فقال جلَّ من قائل عليمًا: +إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا" [الأحزاب: 56] .
اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ونبيك محمد، اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ونبيك محمد، اللهم صلِّ وبارك على عبدك ونبيك محمد، اللهم ارزقنا محبته واتباعه ظاهرًا وباطنًا، اللهم توفنا على ملته، اللهم احشرنا في زمرته، اللهم اسقنا من حوضه، اللهم أدخلنا في شفاعته، اللهم اجمعنا به في جنات النعيم مع الذين أنعمت عليهم من النبيين، والصديقين، والشهداء والصالحين، اللهم ارضَ عن خلفائه الراشدين، وعن زوجاته أمهات المؤمنين، وعن الصحابة أجمعين، وعن التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، اللهم ارضَ عنا كما رضيت عنهم يا رب العالمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم دمر أعداء الدين من الكفار والمنافقين، اللهم احمِ حوزة الدين، اللهم اجعلنا من الآمرين بالمعروف الناهين عن المنكر الداعين إليك على بصيرة يا رب العالمين، اللهم أصلح للمسلمين ولاة أمورهم، اللهم أصلح لولاة أمور المسلمين بطانتهم يا رب العالمين، +رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ" [البقرة: 201] .
عباد الله، +إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90) وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ" [النحل: 90-91]، واذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نِعَمِهِ يزدكم، +وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ" [العنكبوت: 45] .
-------------------
>>>>> ردود الأعضـــــــــــــــــــاء على الموضوع <<<<<
==================================
__________________________________________________ __________
__________________________________________________ __________
__________________________________________________ __________
__________________________________________________ __________