عنوان الموضوع : كتاب أثــــــار الفتن (الأثر الأول - الأثر الثاني عشر) من الشريعة
مقدم من طرف منتديات نساء الجزائر

كتاب أثــــــار الفتن (الأثر الأول - الأثر الثاني عشر)





السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ..


إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم عليه، وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد:



فهذا موضوع نحتاج إلى مذاكرته والوقوف على طرف من جوانبه؛ وذلك من باب الحيطة؛ لأن معرفة آثار الشيء وعواقبه وأضراره يعطي العبد شيئاً من الحصانة منه والحذر من الوقوع فيه، وقد قيل قديماً: " كيف يتقي من لا يدري ما يتقي؟! ".


فالذي لا يعرف الفتن، ولا يعرف آثارها وعواقبها وعوائدها؛ ربما دخل في شيء منها وتلطخ بها وأضرت بحياته، ثم بعد ذلك يلحقه من الندم ما يلحقه.


ومعرفة آثار الفتن نافع للعبد نفعاً كبيراً، ومفيد له فائدة عظيمة؛ لأنه من باب النظر في العواقب ومآلات الأمور، وهذا يُعد من حصافة العبد أي أنه قبل أن يُقدم على أمر من الأمور؛ ينظر في عواقبه وآثاره.



ولهذا جاء في سيرة الإمام أحمد رحمه الله أن نفراً من علماء بغداد جاؤوا إليه في بيته، فقالوا: يا أبا عبد الله هذا الأمر قد تفاقم وفشا - يعنون إظهار القول بخلق القرآن وغير ذلك -
فقال لهم أبو عبد الله: فما تريدون؟
قالوا: أن نشاورك في أنا لسنا نرضى بإمرته ولا سلطانه!
فناظرهم أبو عبد الله ساعة وقال لهم:
" عليكم بالنكرة بقلوبكم، ولا تخلعوا يداً من طاعة، ولا تشقوا عصا المسلمين، ولا تسفكوا دماءكم ودماء المسلمين معكم، انظروا أمركم، واصبروا حتى يستريح بر أو يُستراح من فاجر " رواه أبو بكر الخلال في السنة رقم (90).


فهذه دعوة منه رحمه الله للنظر في آثار الفتن وعواقبها، وأي شيء سيعود على أهلها منها.


وأخذ يحدثهم في ذلك، ثم إنهم خرجوا من عنده ولم يتلقوا كلامه بالقبول، بل لا زالوا على رأيهم مصرين، ودعوا إلى مسلكهم ابن أخي الإمام أحمد رحمه الله، دعوه إلى المسلك نفسه؛ فنهاه والده، وقال: احذر أن تصاحبهم؛ فإن الإمام أحمد لم ينههم إلا عن شر، فاعتذر، ثم كانت نهاية قصتهم أن خرجوا على السلطان، فكانت العاقبة التي حذرهم منها الإمام أحمد رحمه الله؛ قُتل من قُتل، وسُجن من سُجن، دون أن يُقدموا شيئاً في باب الإصلاح.




فالشاهد أن النظر في عواقب الأمور، ومآلات الأشياء، وعدم التعجل والتسرع من أنفع ما يكون للعبد.




ولهذا جاء عن الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال:
" إنها ستكون أمور مشتبهات؛ فعليكم بالتؤدة، فإنك أن تكون تابعاً في الخير خير من من أن تكون رأساً في الشر " أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (38343)، والبيهقي في الشعب (9886).



فأوصى بالتؤدة وهي الأناة وعدم التعجل.


وروى الإمام البخاري رحمه الله في كتابه " الأدب المفرد (327) "، وقال الأباني صحيح، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال:
" لا تكونوا عُجُلاً، مَذَايِيعَ بُذُراً؛ فإن من ورائكم بلاء مبرحاً أو مُكْلِحاً، وأموراً مُتَماحِلَة رُدُحاً "؛ أي: ثقيلة وشديدة.


فأوصى بأمور ثلاثة؛ قال:




الأمر الأول: " لا تكونوا عُجُلاً، مَذَايِيعَ بُذُراً "
فنهى عن العجلة، وهي التسرع، بل ينبغي على الإنسان أن يتأنى ويتروى وينظر في العواقب ولآثار، ثم بعد ذلك يُقدم بعد روية وأناة.




والأمر الثاني: أن يكونوا " مَذَايِيعَ "
وهذا أمر يُحذر منه غاية التحذير، عندما تلتهب الفتن وتشتد لا ينبغي للإنسان أن يكون ساعياً في اشتدادها واشتعالها بكلامه ومقاله؛ بأن يكون مذياعاً للفتنة، ومذياعاً للشر، ومذكياً لناره.



وذكر الأمر الثالث: قال: " بُذُراً "
أي: من بذرة الفتن والسعاة في نشرها، والنبي صلى الله عليه وسلم حذر الأمة، وأخبر أن الفتن توجد وستكون، وحذرهم من السعي فيها
كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال عليه الصلاة والسلام: " ستكون فتن القاعد فيها خير من الماشي، والماشي خير من الساعي " رواه البخاري (3406)، ومسلم (2886)؛ أي: أن المرء كلما كان بعيداً عن تحريك الفتنة وإشعالها وإيقادها وإضرامها؛ كان خيراً له وأصلح، يبتعد عنها، ويسأل الله تبارك وتعالى أن يعيذه ويعيذ المسلمين من شرها، لا أن يكون أداة في اشتعالها وانتشارها.




وقد جاء في صحيح مسلم برقم (2867)، من حديث زيد بن ثابت، عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال: " تعوذوا بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن "، فقال الصحابة رضي الله عنهم: " نعوذ بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن ".




فالفتن يُتعوَّذ منها، ويُطلب من الله تبارك وتعالى أن يعيذ المسلمين منها، وأن يحميهم من غوائلها وآثارها وأخطارها وأضرارها.




ويكثر في الدعوات المأثورة: التعوذ بالله من الفتن، والتعوذ بالله من مضلات الفتن.




وهذا أمر ينبغي أن يكون المسلم على عناية به، وأن يحافظ عليه؛ لأن الحافظ هو الله تبارك وتعالى، والمعيذ هو الله، فيلجأ العبد إلى الله تبارك وتعالى لجوءاً صادقاً، يسأل ربه جل وعلا أن يعيذه، وأن يقيه، وأن يحميه والمسلمين من الفتن، هذا الذي يجب على كل مسلم.




وباب فقه آثار الفتن يفيد الإنسان؛ لأن النظر في عواقب الفتن، ومعرفة مآلاتها قبل تقحمها ودخولها يفيد الإنسان حصانة منها وحذراً من الوقوع فيها، وكما قيل: " إن المؤمنَ يعتبرُ بغيرهِ، فإن أبى كانَ هو العبرة "، فينظر ويتأول ويتروى ويتفقه في الآثار، ويسأل أهل العلم، وأهل الذكر قبل أن يتقحم فتنة، ربما كان فيها رأساً، وربما كان فيها فاتحاً لباب شر عليه وعلى غيره.




وقد جاء في حديث لابن أبي عاصم من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن من الناس ناساً مفاتيح للخير مغاليق للشر، وإن من الناس ناساً مفاتيح للشر مغاليق للخير؛ فطوبى لمن جعل الله مفتاح الخير على يديه، وويل لمن جعل الله مفتاح الشر على يديه " جاء في سنن ابن ماجه (237)، وابن أبي عاصم في السنة ( 297)، والطيالسي في مسنده (2082)، والبيهقي في شعب الإيمان (698)، وحسنه الألباني في الصحيحة ( 1332).




لذلك يجب على المسلم أن يربأ بنفسه أن يكون مفتاحاً للشر ورأساً فيه وداعيية من دعاته، يورط نفسه ويورط غيره ويقحمهم في ورطات لا يحمد هو ولا هم عواقبها، لا في الدنيا ولا في الآخرة.




فالشاهد أن باب فقه عواقب الفتن وآثارها وما ينجم عنها من أضرار وأخطار؛ يفيد المسلم فائدة كبيرة.




وآثاره الفتن كثيرة وعديدة، ويطول عدها والكلام عليها، لكنني أشير في هذه الرسالة إلى جملة من الآثار وشيء من العواقب، راجياً من الله تبارك والتعالى أن يكون في ذلك خير ونفع لنا أجمعين.





الشيخ/ عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر



۩ الأثر الأول:
انصراف الناس عن العبادة

من آثار الفتن أنها سبب لانصراف العبد عن العبادة التي خُلق لأجلها
والطاعة التي أوجد لتحقيقها والاشتغال بها
وينصرف عن ذكر الله تبارك وتعالى
وتصبح حياته وأيامه وأوقاته مشغولة بالقيل والقال والأمور التي تُثار والفتن التي تتأجج
وقلبه يكون مشوشاً مضطرباً مشغولاً
فلا يهدأ ولا يطمئن ولا يتحقق منه ذكر لله تبارك وتعالى على وجه الطمأنينة
فيكون مضطرب القلب، مشوش البال، منشغل الخاطر
ولهذا جاء في الحديث الصحيح عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال: " عبادة في الهرج كهجرة إلي " أخرجه الطبراني في الكبير ( 20/213) من حديث معقل بن يسار رضي الله عنه، وصححه الألباني في صحيح الجامع
(3974)

فالهرج: هو ما يكون في الناس من اضطراب، وعندما تموج الأمور وتضطرب، وينشب بين الناس الفتن والقتل ونحو ذلك، من يكون في مثل هذا الوقت مشتغلاً بعبادة الله تبارك وتعالى فهو كالمهاجر إلى النبي عليه الصلاة والسلام.




وهذا يبين أن من كان في الهرج مشتغلاً بالعبادة؛ فإنه موفق سالم من أوضار الفتنة.




وأيضاً في الوقت نفسه يدل أن الذي ينبغي على الإنسان في الفتن هو الإقبال على العبادة، وتجنب الفتن؛ ليفوز بالسعادة والراحة والطمأنينة

ولهذا جاء في الحديث الصحيح عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال: " إن السعيد لمن جُنِّبَ الفتن "، وكررها عليه الصلاة والسلام ثلاث مرات، أخرجه أبو داوود (4263) من حديث المقداد بن الأسود رضي الله عنه؛ وصححه الألباني في الصحيحة (975).

فالسعادة في تجنب الفتن، والاشتغال بالعبادة والذكر، والطاعة لله سبحانه وتعالى، والتقرب إليه جلَّ وعلا بما شرع من أنواع العبادات، وأنواع الأذكار، وأنواع القربات.


وقد جاء في الصحيح من حديث أم سلمة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت: استيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة فزعاً يقول: " سبحان الله ماذا أنزل الله من الخزائن؟ ماذا أنزل الله من الفتن؟! من يوقظ صواحب الحجرات يعني: أزواجه يصلين "
صحيح البخاري (115، 1126، 3599، 5844، 6218، 7069 ).


فأرشد عليه الصلاة والسلام عند نزول الفتن إلى الصلاة، إلى عبادة الله تبارك وتعالى، إلى التقرب إليه، قال: " من يوقظ صواحب الحجرات يصلين، رب كاسية في الدنيا عارية في الآخرة ".



وأيضاً يدل على هذا المعنى؛ قوله عليه الصلاة والسلام: " بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم "
أخرجه مسلم (118) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، فأرشد إلى الأعمال الصالحة، بأن يُقبل الإنسان على طاعة الله، على الصلاة، على الذكر، على الدعاء، على تلاوة القرآن.




وعندما تموج الفتن؛ يُشغل الناس عن الأعمال، وعن العبادات إلا القليل ممن يكتب لهم تبارك وتعالى توفيقاً وتسديداً وتأييداً.


لما وقعت الفتنة في زمن التابعين؛ قال الحسن البصري رحمه الله - وهو ممن اعتزل الفتن - قال: ( يا أيها الناس! إنه والله ما سلط الله الحجاج عليكم إلا عقوبة؛ فلا تعارضوا عقوبة الله بالسيف، ولكن عليكم بالسكينة والتضرع ) أخرجه ابن سعد في الطبقات الكبرى (7/164)، وابن عساكر في تاريخ دمشق (12/178)؛ فإن الله يقول: { وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ } [ المؤمنون: 76 ].


أي أن الواجب على الإنسان هو الاستكانة إلى الله، والتضرع إليه، وملازمة ذكره، وأن يُصلح حاله ونفسه وبيته، وأن يستقيم على طاعة ربه على الوجه الذي يُرضي الله تبارك وتعالى.

وجاء عن أبي هريرة رضي الله عنه في هذا المعنى أنه قال: " تكون فتنة لا يُنجِي منها إلا دعاءٌ كدعاء الغريق " أخرجه ابن أبي شيبة (7/531)، وجاء نحوه عن حذيفة رضي الله عنه، أخرجه ابن أبي شيبة (6/22)، والحاكم ( 1/687) وصححه.


ويعرف كل منا كيف يكون دعاء الغريق، الذي أدركه الغرق كيف يكون دعاؤه؟! يقول: " تكون فتنة لا يُنجِي منها إلا دعاء الغريق "، أنت تُقبل على الله تبارك وتعالى إقبالاً صادقاً بأن ينجيك ويجيرك ويسلمك ويحفظك.













۩ الأثر الثاني:


صرف الناس عن العلم والعلماء




من آثار الفتن وعواقبها: أنها تصرف الناس عن مجالس العلم ومجالسة العلماء وتعلم الأحكام، ومعرفة الدين، وتكون القلوب مشغولة، وفيها نار الفتنة متأججة، فلا يطمئن لطلب علم، ولا يقبل على مجالسة العلماء، بل يكون منصرفاً عن ذلك كله.



بل أزيد من ذلك وأعظم أنها تفضي بكثير من الناس إلى انتقاص العلماء واحتقارهم، وعدم معرفة أقدارهم، والوقيعة فيهم، وفي أعراضهم، والنيل منهم.



وقد جاء في الحديث عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال: " ليس منا من لم يرحم صغيرنا، ويوقر كبيرنا، ويعرف لعالمنا حقه " أخرجه أحمد (22755)، والحاكم (1/211) من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه، وقال الألباني في صحيح الجامع (1/211): حسن.



ففي الفتنة يقع كثير من الناس في انتقاص العلماء واحتقارهم ولمزهم وهمزهم والطعن فيهم والتقليل من شأنهم ورميهم بالأوصاف العظيمة، ويتجرأ على مقام العلماء جرأة سافرة، جرأة سيئة، وذلك كله من آثار الفتن، والعياذ بالله.



ومما جاء في هذا المعنى من الأخبار التي تُروى في التاريخ؛ أنه لما كانت فتنة عبد الرحمن بن الأشعث، وقد دخل في هذه الفتنة عدد من القراء وكثير من الناس، لما كانت هذه الفتنة؛ انطلق نفر من الناس، فدخلوا على الحسن البصري، وهو إمام من أجلة أهل العلم، وفقيه من كبار فقهاء الإسلام، فقالوا: ما تقول في هذا الطاغية - أي الحجاج - الذي سفك الدم الحرام وأخذ المال الحرام وترك الصلاة وفعل وفعل؟! وذكروا له من أفعال الحجاج، فقال الحسن البصري رحمه الله تعالى: " أرى ألا تقاتلوه؛ فإنها إن تكن عقوبة من الله - أي تسليط الحجاج -؛ فما أنتم برادي عقوبة الله بأسيافكم، وإن يكن بلاء فاصبروا حتى يحكم الله، وهو خير الحاكمين "، فخرجوا من عنده وهم يقولون: نطيع هذا العلج؟! الطبقات الكبرى لابن سعد (7/163-164)، والكنى والأسماء للدولابي (3/1035)، وتاريخ دمشق (12/178).



فلما تأججت الفتنة في نفوسهم؛ عندما يقول العالم قولاً لا يوافق أهواءهم ولا يمشي مع ميولاتهم وتوجهاتهم رأساً يطعنون به.



والطعون ممن أُشربوا الفتنة في أهل العلم لا حد لها في قديم الزمان وحديثه، وربما رموه بمداهنة، وربما رموه بعمالة، وربما رموه بأوصاف وألقاب لا حد لها.



فالفتن تجرئ الناس على مقام العلماء، وانتقاصهم، وتحقيرهم، والوقيعة في أهل العلم، وهذا من أخطر ما يكون على الإنسان، حمانا الله جميعاً من ذلك.



ثم إن هؤلاء النفر الذين قالوا للحسن هذه المقالة ولم يستجيبوا لنصحح خرجوا مع ابن الأشعث فقُتِلوا جميعاً، ولم يحصلوا خيراً، ولم يستفيدوا أيضاً من نصائح أهل العلم؛ لأن أهل العلم أصبح ليس لهم مقام عندهم، وليس لكلامهم أي اعتبار أو أي شأن.



۩ الأثر السادس:

اشتباه الأمور واختلاط الحق بالباطل

يتبع


>>>>> ردود الأعضـــــــــــــــــــاء على الموضوع <<<<<
==================================


من آثار الفتن وعواقبها:
أن الأمور تشتبه فيها على الناس وتختلط، ولا يميز كثير من الناس بين حق وباطل، ويُقتل الرجل ولا يدري فيما قُتل، ويقتله قاتله ولا يدري فيما قتله
لكنها فتنة مضطرمة، ويموج الناس، وتتغير النفوس، وتعظم الأخطار، وتُحدِق الشرور بالناس، وتصبح الأمور مشتبهة
يقول أبو موسى الأشعري رضي الله عنه: " إن الفتنة إذا أقبلت شبَّهت، وإذا أدبرت تبيَّنت " تاريخ الطبري (3/26 - دار الكتب العلمية)؛

فالفتنة إذا أقبلت على الناس يصبح أمرها مشتبهاً على الناس غير متضح، وإذا أدبرت عرف الناس حالها وتبين لهم أمرها.




ويقول مطرف بن عبد الله بن الشخير: " إن الفتنة لا تجيء حين تجيء لتهدي الناس، ولكن لتقارع المؤمن على دينه " أخرجه ابن سعد في الطبقات (7/142)، وأبو تعيم في الحلية (2/204).




ولنعتبر في هذا الباب بفتنة المسيح الدجال التي هي أعظم الفتن، والنبي عليه الصلاة والسلام ذكر لأمته فيها حقائق جلية، وأموراً واضحة، تكشف عور الدجال، وتبين حقيقته، ومع ذلك يتبعه خلق لا يحصيهم إلا الله.




يقول عليه الصلاة والسلام: " من سمع بالدجال فلينأى عنه - أي يبتعد عنه ولا يقترب من مكانه - فوالله إن الرجل ليأتيه وهو يحسب أنه مؤمن فيتبعه مما يبعث به من الشبهات " أخرجه أحمد (19968)، وأبو داوود (4319)، والحاكم (4/576) من حديث عمران بن حصين رضي الله عنه، وقال الألباني في صحيح الجامع (6301) أنه صحيح
فيتبعه أي: يتبع الدجال مما يثيره من الشبهات التي تخطف القلوب، وتأسر النفوس.




وجاء في الحديث في صحيح مسلم برقم (1848) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: " من قاتل تحت راية عمية، يغضب لعصبة أو يدعو لعصبة أو ينصر عصبة فقُتِل، فقتلة جاهلية ".




وقوله عمية أي: الأمر الأعمى، لا يستبين حاله، ولا يتضح أمره، وهذا حال الفتن وشأنها أنها يصبح الناس يموجون فيها، ولا يتضح لهم فيها أمر، ولا تستبين لهم فيها جادة.




ومن لطيف ما يُذكر في هذا المقام قصة الصحابي الجليل سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وأرضاه، يقول ابن سيرين: قيل لسعد بن أبي وقاص: ألا تقاتل؟ - يقصدون في الفتنة التي كانت، والقتال الذي كان بين معاوية وعلي بن أبي طالب، وكان سعد ممن اعتزل ذلك وابتعد عنه - فقالوا له: ألا تقاتل فإنك من أهل الشورى، وأنت أحق بهذا الأمر من غيرك؟

فقال: " لا أقاتل حتى تأتوني بسيف له عينان، ولسان، وشفتان، يعرف المؤمن من الكافر ".



أي: تأتوني بسيف يعرف المؤمن من الكافر، إن ضربت مسلماً نبأ عنه لا يقتله، وإن ضربت كافراً قتله.

ثم قال: " لقد جاهدت وأنا أعرف الجهاد " أخرجه عبد الرزاق في المصنف (20736)، وابن سعد في الطبقات (3/143)، وأبو نعيم في معرفة الصحابة (1/135).

أي: أما مثل هذا القتال الذي تتساقط فيه رؤوس المسلمين، ويقتل بعضهم بعضاً؛ لا أدخل في ذلك إلا أن تأتوني بسيف هذه صفته، ثم ضرب مثلاً عجيباً، قال فيه رضي الله عنه: " مثلنا ومثلكم كمثل قوم كانوا على محجة بيضاء، فبينما هم كذلك يسيرون؛ هاجت ريح عجاجة فضلوا الطريق - اشتبه الطريق بسبب العجاج والريح والتبس عليهم - فقال بعضهم: الطريق ذات اليمين؛ فأخذوا فيها فتاهوا وضلوا، وقال آخرون: الطريق ذات الشمال؛ فأخذوا فيها فتاهوا وضلوا، وقال آخرون: كنا في الطريق حيث هاجت الريح فنُنيخ فأناخوا فأصبحوا، فذهب الريح وتبين الطريق، فهؤلاء هم الجماعة، قالوا: نلزم ما فارقنا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نلقاه، ولا ندخل في شيء من الفتن " أخرجه بهذا التمام ابن الأعرابي في معجمه (713)، والخطابي في العزلة (ص72)، وابن عساكر في تاريخ دمشق (39/496).




وكان منهج سعد بن أبي وقاص وعبد الله بن عمر وجماعة من الصحابة أن الحل في الأمر الذي كان بين معاوية وبين علي ليس السيف، وإنما الحل السعي في الصلح والتروي في الأمور ونحو ذلك

وعلي رضي الله عنه كان له اجتهاده، ومعاوية رضي الله عنه كان له اجتهاده، ولا يُعدم من كان مجتهداً ومتحرياً الحق والصواب من أجر الاجتهاد والإصابة، أو من أجر الاجتهاد والخطأ، وذنبه مغفور

كما قال عليه الصلاة والسلام: " إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر " أخرجه البخاري (7352)، ومسلم (1716) من حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه
لكن جماعة من الصحابة رأوا أن الحل في مثل ذلك ليس بالسيف والقتال، وإنما بالسعي في الصلح، والبعد عن القتال، وجمع الكلمة إلى غير ذلك من المسالك.

الاثر السابع:


التغرير بالناشئة والشباب




أيضاً في الفتن ومما يترتب عليها: أن الفتن تكون سبباً ووسيلة لاستدراج الناس وصغار الأسنان والتغرير بهم من خلال خطوط وقنوات ومسارات إلى أن يصلوا إلى عواقب وخيمة ونهايات مؤلمة.




وهنا ينبغي على الشاب ألا يغتر بالدعايات التي تُرفع، والشعارات التي تُثار، والعبارات ونحو ذلك، بل إذا دُعي إلى شيء يُرجع إلى أكابر أهل العلم،
قد قال عليه الصلاة والسلام:
" البركة مع أكابركم "
أخرجه ابن حبان (559)، والطبراني في الأوسط (8991)، والحاكم (1/131) وصححه، ووافقه الذهبي، وأقرهما الألباني في الصحيحة (1778).




فإذا دُعي إلى طريق أو مسار أو مسلك يرجع إلى أكابر أهل العلم، الراسخين فيه، المعروفين بالتحقيق فيه
الذين رسخت قدمهم في العلم ومدارسته ومذاكرته
ورسخت قدمهم في الفتوى والبيان والتوجيه والنصيحة والتعليم
يرجع إليهم فيسأل
لكن في الفتن قد يُستدرج بعض الناشئة ويُؤخذون عبر خطوات إلى أن يدخلوا في أمور عظيمة وورطات جسيمة
ربما لا يجدون لأنفسهم منها مخرجاً، وتكون البدايات مع الصغار من مثيري الفتن في أشياء مألوفة وأمور معروفة،
مثل أن يجتمع جماعة ويتعاهدون على أشياء معروفة ومتقررة

فيقولون مثلاً: نجتمع على الإيمان بالله وملائكته وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ونتعاهد على ذلك، ويضيفون لها بعض الأشياء التي تجعل الشاب فيما بعد يجد أنه التزم بعهد، وربما دخل في حزب أو سلك في تنظيم أو دخل في بيعة أو نحو ذلك، ويجد نفسه في مسار يحتار فيه، وربما يصعب عليه الرجوع، وقد قطع فيه شوطاً وتورط في ذلك المسلك والمسار
بينما إذا كان الشاب موفقاً ومنَّ الله عليه بالتوفيق؛ فإنه يسلم من ذلك، ومثل هذه الأمور كانت توجد من قديم.




في زمن التابعين، يروي لنا مطرف بن عبد الله بن الشخير قصة له لما كان صغيراً وردت في حلية الأولياء (2/204)، تاريخ دمشق (58/313)
فيقول: كنا نأتي زيد بن صوحان - كان واعظاً يعظ ويذكر ويخوفهم بالله، ويرغبهم في العبادة والطاعة - فكان يقول: " يا عباد الله أكرموا وأجملوا فإنما وسيلة العباد الى الله بخصلتين: الخوف والطمع ".




فيقول: فأتيته ذات يوم وقد كتبوا كتاباً فنسقوا كلاماً من هذا النحو: " إن الله ربنا، ومحمد نبينا صلى الله عليه وسلم، والقرآن إمامنا، ومن كان معنا كنا وكنا، ومن خالفنا كانت يدنا عليه وكنا وكنا "، وكتبوا كتاباً بهذه المعاني وبهذه المضامين التي في ظاهرها أنها أمر لا إشكال فيه عند كثير من الناس.

قال: فجعل يعرض الكتاب عليهم رجلاً رجلاً، كلما عرضوا على رجل يقولون له: أقررت يا فلان؟ فيقول: نعم أقررت.

قال: حتى انتهوا إلي؛ فقالوا: أقررت يا غلام؟ - أي: بهذه الأمور - قلت: لا، ما أقررت.

قال زيد بن صوحان: لا تعجلوا على الغلام، قال: ما تقول يا غلام؟

قلت: إن الله قد أخذ عليَّ عهداً في كتابه فلن أُحْدِث عهداً سوى العهد الذي أخذه الله عليَّ في كتابه.

قال: فرجع القوم عن آخرهم، ما أقر منهم أحد، وكانوا زهاء ثلاثين نفساً.




الشاهد: أن الفتن ربما يُستدرج فيها كثير من الشباب وصغار السن في تنظيمات أو في تحزبات أو في بيعات أو في نحو ذلك من الأمور مما يترتب عليه ما لا تحمد عاقبته.


الأثر الثامن:

إضعاف الأخوة الإيمانية والرابطة الدينية

أيضاً من آثار الفتن ومآلاتها المردية:
أنها تفكك المجتمعات، وتضعف الأخوة الإيمانية والرابطة الدينية، وتنشر بين الناس الضغائن والأحقاد والعداوات
ولهذا جاء في الحديث الذي في صحيح البخاري (7084،3606)، ومسلم (1874)

حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: " كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألونه عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني، فقلت: يا رسول الله إنا كنا في جاهلية وشر، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: نعم، فقلت: يا رسول الله وهل بعد هذا الشر من خير؟ قال: نعم، وفيه دخن "
وجاء في بعض الروايات أنه قال: " بقية "
وفي رواية جماعة: " على أقذاء، وهدنة على دخن "
وفي رواية قال: " لا ترجع قلوب أقوام على الذي كانت عليه " أخرجه أحمد (23282)، وأبو داوود (4246)، وابن حبان (5963)، وانظر الصحيحة للألباني (2739).

فالشاهد: أن الفتن عندما تتأجج؛ تغير النفوس وربما تخلخلت معاني الأخوة والرابطة الإيمانية

والله تبارك وتعالى يقول: { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } [ الحجرات: 10 ]
والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: " وكونوا عباد الله إخواناً، المسلم أخ المسلم، لا يخذله، ولا يظلمه، ولا يحقره، التقوى ها هنا، بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم " أخرجه مسلم (3564) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، والأحاديث في هذا المعنى كثيرة.

**********

۩ الأثر التاسع:


الجرأة على القتل وسفك الدماء

أيضاً من عواقب الفتن ومآلاتها: أنها ترخص فيها دماء المسلمين فيما بينهم، وتتجرأ النفوس على القتل، ويستحل الناس دماء بعضهم بعضاً
وقد جاء عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه قال: " في الفتنة لا ترون القتل شيئاً " أخرجه أحمد (4871)
وكان رضي الله عنه عظيم النهي عن الدخول في إراقة الدماء، واستلاب الأموال، والتعدي على الأعراض، وله في هذا كلمة عظيمة جميلة ينبغي أن تُحفظ ويُحافظ عليها ألا وهي أن رجلاً كتب إلى ابن عمر رضي الله عنهما أن اكتب إلي بالعلم؛ فكتب إليه: " إن العلم كثير يابن أخي، ولكن إن استطعت أن تلقى الله خفيف الظهر من دماء المسلمين، خميص البطن من أموالهم، كاف اللسان عن أعراضهم، لازماً لجماعتهم، فافعل " تاريخ دمشق (31/170 و 52/256)، وسير أعلام النبلاء (3/222).



وهي وصية من أعظم الوصايا وأجمعها للعلم كله والخير كله.

۩ الأثر العاشر:
اختلال الأمن



أيضاً من آثار الفتن: أنها تؤدي إلى اختلال الأمن، والأمن من أعظم النعم التي منَّ الله سبحانه وتعالى بها على أمة الإيمان: { الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ }
[ قريش: 4 ].





فالأمن نعمة عظيمة، أمن الإنسان على دمه، أمنه على ماله، وأمنه على نفسه، وعرضه، إلى غير ذلك، هذه من النعم الكبار، لكن إذا اضطربت الأمور وشبت الفتن واشتعلت؛ أُرِيقت دماء، وأُتلِفت أموال، وأُزهِقت أرواح، ويُتِّم أطفال، ورُمِّل نساء، إلى غير ذلك من العواقب التي لا تحمد.


**********



۩ الأثر الحادي عشر:



تجرؤ أهل الانحلال على نشر باطلهم




أيضاً من آثار الفتن: أنها تفتح على الناس أبواباً من الانحراف، سواء من الجوانب العقدية أو الجوانب الأخلاقية، ويتجرأ أهل الانحلال والفساد في نشر باطلهم وفسادهم؛ لأن أصحاب الحق شغلتهم الفتنة، واشتغلوا بها، وضيعت أوقاتهم، وصرفتهم عن باب الإفادة والنفع والانتفاع، فيستغل أهل الفساد وأهل الشر ذلك؛ فيبدؤون في بث باطلهم، ونشر شرهم ودعوتهم للرذيلة والفساد، أو دعوتهم إلى الانحلال العقدي والمذاهب الفاسدة المنحرفة، ويجدون لأنفسهم فرصة عند اشتغال الناس وأهل الخير بالفتن، وهذا مما يؤكد على كل مسلم أن يكون في غاية الحذر من الفتن وعوائدها.


**********



۩ الأثر الثاني عشر والأخير:



تسلط الأعداء




أيضاً من الآثار: تؤدي أو تفضي إلى تسلط الأعداء؛ عندما يتنازع أهل الحق، ويفشو فيهم الهرج والقتل، ويموج أمرهم وتضطرب كلمتهم؛ يستغل الأعداء هذه الفرصة، ويتسلطون على أهل الإيمان، ويضغطون عليهم بأنواع من الضغوطات؛ والله تبارك وتعالى يقول: { وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ } [ الأنفال: 46 ].




فالواجب على أهل الإيمان أن يكونوا في غاية الحذر من الفتن وأخطارها، وأن يكونوا في حيطة من ذلك، وأن يقبلوا على الله سبحانه وتعالى إقبالاً صادقاً بأن يعيذهم من الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأن يصلح لهم أحوالهم، وأن يجمع كلمتهم على الحق والهدى.




ونسأل الله الكريم رب العرش العظيم بأسمائه الحسنى وصفاته العليا، وبأنه الله الذي لا إله إلا هو الذي وسع كل شيء رحمة وعلماً، أن يجيرنا من الفتن، وأن يسلمنا من غوائلها، وأن يحفظنا بحفظه، إنه تبارك وتعالى سميع مجيب.



وصلى الله وسلم وبارك وأنعم على عبد الله ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.



انتهت الآثار


وبالله التوفيق


__________________________________________________ __________


__________________________________________________ __________


__________________________________________________ __________


__________________________________________________ __________