قُبيل الغروب اعتادَت "نجوى" أن تتركَ حجرتها الكئيبة الحارَّة المُظلمة؛ لتجلسَ على مصطبة أمام الدار، تتلقَّى نسمات صيفيَّة باردة، مُمسكة بإحدى يديها كوبًا من الشاي الأسود، تَرتشفه ببُطء كأنَّما تلتذُّ بمرور كلِّ قطرة منه على مراكز التذوُّق في اللسان.
ساهمة شارِدة، كأنما تعيش في عالَم من الرُّؤَى والخواطر والأحلام، تَرمق العابرين بنظرات حادَّة حانقة، حَرِيَّة ببثِّ أطنان من الرعب والهَلع في نفوس مَن يُبادلونها النظر!
وجْهُها الرجولي الصُّلب الذي شكَّلت ملامحه الدميمة البائسة أنيابُ الدهر المُفترسة - غابَت عن واديه رِقَّة الأنوثة، وعن سمائه سحائبُ الرحمة وأنوارُ الطلاقة.
تَعيش في هذه الدار مع شقيقَيها اللَّذين يَختفيان لبضعة أيَّامٍ، ثم لا يَلبثان أن يَظهرا، لكنَّ أحدًا لا يعرف لاختفائهما سببًا، ولا لظهورهما علَّة، أصبَحت الحياة الغريبة التي يَعيشها هؤلاء الأشقَّاء - غريبو الأطوار - حياة عاديَّة مألوفة لدى الجيران؛ لأنَّ حياتهم الغريبة هي امتدادٌ لحياة الوالدين الأكثر غَرابة!
"نجوى" متزوجة في قرية بعيدة، لكنَّها تَجلس في بيت أبيها أكثرَ مما تجلس في بيت زوجها، ولولا علامات الحمْل البادية عليها، لَما صدَّق أحدٌ أنها على ذِمَّة رجلٍ!
اعتاد الجيران على خروجها في الساعات المُبكِّرة من الصباح، لكنَّهم لا يعرفون متى تعود إلى بيت شقيقَيْها؛ فقد تَعود وقت الظهيرة، أو مع أذان العصر، أو في عَتمة العشاء، لا أحدَ يهتمُّ بذهابها أو يَعبأ بعودتها، غير أنهم يَرونها في بعض الأحيان ترجعُ حاملةً سلةً كبيرة مصنوعة من البوص على رأسها، وأحيانًا ترجع خاوية الوِفاض.
ذات نهارٍ تراءَت لعينيها الزائغتين المُحدِّقتين في كلِّ ما يُحيط بها، تَوْءَمتان صغيرتان لا يتجاوز عمرُ الواحدة منهما أربع سنوات، تلعبان على مَقربة منها، تَلأْلأَ في وَهَج الشمس الضاحكة قُرطُ ذَهبي في أُذن إحدى الطفلتين، جحَظتْ عيناها، ودارَت في خَلدها خواطر شيطانيَّة.
الشارع خلا تمامًا من المارَّة؛ فالوقت وقت قيلولةٍ، ومعظم أهل القرية مَشغولون في حقولهم بجَني القطن، لا تجد أحدًا في القرية إلاَّ بعض الشيوخ، وأصحاب الأمراض والعِلل، وبعض الموظَّفين الذين لا يَمتلكون أرضًا، وقد تعوَّد هؤلاء النومَ وقتَ القيلولة بعد عودتهم من أعمالهم.
والد الطفلتين رجلٌ موظَّف في هيئة قصور الثقافة في مدينة مجاورة، وزوجه ربَّة منزلٍ، يعيشان في بيت صغيرٍ على بُعد أمتار قليلة من بيت "نجوى"، لا يَمتلكان أرضًا، وليس لهما دخلٌ سوى الراتب الشهري للزوج، لكنَّهما مع هذا يَهتمَّان بأناقتهما وأناقة الطفلتين.
كان هذا القُرط الذي تتحلَّى به إحدى الطفلتين هديَّةً من خالهما، كان قد اشترى لكلِّ واحدة منهما قُرطًا من الذهب، غير أنَّ الوالدين اضْطُرَّا إلى بيع أحد القُرطين لضائقة ماديَّة مرَّا بها.
استَدرَجت نجوى الطفلتين إلى دارها، أعطَت إحداهما عشرة قروش؛ لتشتري بها حلوًى لها ولأُختها، وأخبرتْها أنها في انتظارها هي وأُختها، ذهَبَت الطفلة لشراء الحلوى، أخذَت "نجوى" الطفلة ذات القُرط، ودخَلت بها إلى حجرة مُظلمة في نهاية الدار، مَدَّت يديها إلى أذن الطفلة؛ لتَنزع عنها القُرط، صرَخت الطفلة، كتَمَت فاها بإحدى يدَيها، ونزَعت القُرط بيدها الأخرى، لَعِب الشيطان برأسها، ووَسْوَس لها بأنَّ الطفلة لا بدَّ وأنها ستُخبر أهلها، فرَاوَدتها فكرة الخلاص منها، خَنقتها بكلتا يَديها، جَحَظت عينا الطفلة، وتدلَّى لسانها، سقطَت على الأرض بعد أن صَعِدتْ رُوحها إلى بارئها، تلفَّتت "نجوى" كالمجنونة حولها، أخَذت بفأسٍ وحفَرت حفرة داخل الحجرة، دَفَنتها في حفرتها المُعدَّة لها، ثم غسَلت وجْهها ومسَحت التراب عن ملابسها، وخرَجت إلى الشارع تَجلس كعادتها أمام البيت وكأن شيئًا لَم يكن.
وقفَت الطفلة الثانية بإزائها؛ لتسألها عن أُختها فأَخْبرتها بأنها سبَقتها إلى البيت، عادَت الطفلة إلى بيتها وحيدةً، سأَلَتْها أُمُّها عن شقيقتها، لكنَّ الطفلة لا تَعرف، لقد ألْهَتها الحلوى عن أُختها، ولأنها طفلة لا تَستطيع أن ترجعَ بذاكرتها وحْدها إلى ما قبل الحلوى، ومن ثَمَّ فَشِل الوالدان في معرفة مكان الطفلة المُختفية.
هامَا على وجهَيْهما كمَن به جِنَّة، وخرَج معهما الجيران، وخرَجت معهم "نجوى"، يبحثون جميعًا عن الطفلة الضائعة، ساعات وساعات دون جَدْوى، أبْلغا الشرطة التي أخَذت بدورها استجواب الجيران والطفلة الصغيرة التي استطاعَت أن تتذكَّر آخرَ مرَّة رأَتْ فيها أُختها، فأخْبَرتهم بأن "نجوى" أدخَلتها بيتها، وأعْطَتها بعض القروش؛ لتشتريَ بها حلوى.
قُبِض على "نجوى" التي كانتْ تستعدُّ للهرب من القرية، وبكثيرٍ من الضغط عليها اعْتَرَفت بجريمتها، ودلَّتهم على الحجرة الملعونة التي أخْفَت فيها معالِم الجريمة، حفرت الحجرة، واستخرَج رجال البوليس منها سبعَ جُثث لسبع ضحايا، كلهنَّ من البنات الصغيرات جَلَبتهنَّ من قرًى مختلفة، تقوم بتخدير الضحيَّة ووَضْعها في سلةٍ تَحملها على رأسها، ثم تأتي بها إلى بيتها؛ لتَنزع عنها قُرطها، وتدفنها في حجرة الموت.
حُكِم عليها بالإعدام شنقًا، وعلى شقيقَيْها بالمُؤبَّد، لكنَّ الإعدام تأجَّل؛ حتى تضعَ مولودها، وتُرضعه إلى أن يَبلغ حدَّ الفطام، كانت القرية في تلك الأثناء في حالة شديدة من الهَلع والفَزع، يتصوَّرون أنَّ مخالب "نجوى" يُمكن أن تصلَ إليهم من وراء القضبان.
لَم تَذُق القرية طعمَ الأمان، ولذَّة الاستقرار، ونعيم الراحة - إلاَّ بعد تنفيذ حُكْم الإعدام فيها، هنالك اطْمَأَنَّت القلوب الواجفة، وهَدَأت النفوس المُضطربة، وخرَج الأطفال الأبرياء إلى الشوارع، يرتعون ويَمرحون، وباتَت نجوى حديثًا باهتًا، وذكرى في عُمق النسيان.