عنوان الموضوع : نساء تحدث عنهن القرآن (5) نساء - الشريعة الاسلامية
مقدم من طرف منتديات نساء الجزائر

نساء تحدث عنهن القرآن (5) نساء



بسم الله الرحمن الرحيم


نساء تحدث عنهن القرآن (5) نساء حول الرسول - عليه الصلاة والسلام


نساء تحدث عنهن القرآن (5) نساء حول الرسول - عليه الصلاة والسلامتحدثنا من قبل عن النسوةِ الصالحات اللاتي تحدث عنهنَّ القرآنُ الكريم(1)، من مجتمعاتِ الأنبياء السابقين لعصر خاتم النبيين، وكما تحدث القرآنُ عن أولئك النسوة الصالحات في تلك المجتمعات، تحدَّثَ أيضًا عن عدة نساءٍ من عصرِ نبوة محمد - عليه السلام - ليكنَّ قدوةً للمسلماتِ في القرون التالية:

1- زينب بنت جحش: أول هؤلاء النسوة: زينب بنت جحش، وأمها أميمةُ بنت عبدِالمطلب، عمة الرسول - عليه الصلاة والسلام - وهي امرأةٌ ذات حسب وجمال، زوَّجها الرَّسولُ - صلى الله عليه وسلم - من مولاه زيد بن حارثة - رضي الله عنه - وكان قد تبناه قبل البعثة، وصار يُقال له: زيدُ بن محمد؛ عندما آثر البقاءَ عنده على الذَّهابِ مع أبيه وعمِّه، وبعد أن أنزل الله تعالى في حقِّ زيد وأمثالِه: ﴿وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ * ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ﴾ [الأحزاب: 4 ، 5]، ولكن زينب عاشت سنةً مع زيد على مضض، وتعكَّرتْ بينهما العلاقةُ الزوجية إلى حدٍّ لم يبق زيد يطيقُه، ولعلَّ كون زيد مولى لمحمد لا ولدًا له، أشعر زينبَ بأنه دونها حسبًا ونسبًا، فتعَالَت عليه مما نغَّصَ حياتهما، فعرض زيد على الرَّسولِ - عليه الصلاة والسلام - أن يطلقَها، ولكن الرسولَ - عليه السلام - كان يشدِّدُ على زيد في أن يمسكَ زوجته، وأن يبقي عشَّ الزوجية عامرًا؛ ﴿وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ﴾ [الأحزاب: 37]، فالرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - يتوقَّعُ هزةً اجتماعية في مجتمع المدينة، بعد أن هدأت هزةُ إلغاء التبنِّي.

وكان الرسول - عليه الصلاة والسلام - يعلمُ بما أعلمه الله، أنَّ تغييرًا نفسيًّا سيحدث في المجتمعِ الإسلامي الذي كان في جاهليته قد اعتاد على مفهومِ التبني، وليكتمل إلغاء هذا المفهوم عمليًّا، قدَّرَ الله على النبي- عليه الصلاة والسلام - أن يتزوجَ بمطلقةِ مَن كان يُعدُّ سابقًا ولده (بالتبني)، وهذا الحدث يشكِّلُ صدمةً عملية للمفهوم الذي كان سائدًا في السابق، ومن هنا حرص الرسولُ - عليه السلام - على أن تبقى زينب عند زيد؛ ﴿وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ﴾ [الأحزاب: 37].

فمحمَّدٌ - عليه الصلاة والسلام - كان يشفقُ على المسلمين من هذه الصدمةِ النفسية، لما اصطلحوا عليه واعتادوه، ولكنَّ الله قدَّر، ولا رادَّ لذلك، أن يضعَ حدًّا لهذا المفهومِ الخاطئ؛ من نسبةِ الولد المُتبنَّى إلى غيرِ أبيه، ومعاملته معاملةَ الولدِ من الصلب، وراثة وحرمة، وذلك بأن يتزوجَ محمد من مطلقة زيد! ﴿فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا * مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا﴾ [الأحزاب: 37 ، 38]، وهكذا أصبحت زينب إحدى زوجاتِ الرسول - عليه الصلاة والسلام - وإحدى أمهات المؤمنين، وزادت شرفًا إذ نزل فيها قرآنٌ يتلى، وكانت عنصرًا أساسيًّا في إلغاءِ متعلقات التبني ولواحقه.

2- عائشة بنت أبي بكر - رضي الله عنهما -: وأمَّا المرأة الثانية التي نزل فيها قرآنٌ فهي عائشة بنت أبي بكر - رضي الله عنها وعن أبيها، نزل فيها قرآنٌ يبرئها من تهمةٍ لاكتها ألسنةُ السوء، التي تحدثت بحديثِ الإفك، فكانت عائشة بذلك طاهرةً مطهرة مبرأة، ونتلو براءتها في عشرِ آيات من سورة النور، على مرِّ الزمان، فقد كانت - رضي الله عنهما - مع رسولِ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - في غزوة بني المصطلق، وألجأتها حاجتُها إلى الابتعادِ عن الرَّكبِ ليلاً لقضائها، وعندما عادت افتقدت عِقدًا رجعت تبحث عنه، وطال بحثُها فارتحل الركبُ قبل أن تعود، وعندما رجعت وجدت المكانَ خاليًا من الجيش، فقعدت تنتظرُ عودةَ من يبحث عنها عندما يفتقدونها، وأقبل عليها صفوانُ بن المعطل المكلف بتعقبِ الجيش وجمع ما يتساقَطُ منه، وعرفها فاسترجع وأناخ راحلةً فركبتها، وسارت حتى أدركا الجيشَ ظهرًا، وهنا بدأت ألسنةُ السوء تتحدَّثُ بالسوء على عائشة، وكان من الذين جاهروا بذلك حسان بن ثابت، ومسطح بن أثاثه، وحمنة بنت جحش - أخت زينب بنت جحش زوجة الرسول - وتولَّى كبرَ هذا الإفك عبدالله بن أبي بن سلول، وعائشة لا تدري بما تتداولُه الألسنة عنها، واستلبث الوحي شهرًا حتى علمتْ بالأمر واشتدت عليها وعلى الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - القضية، ثم نزلت آياتُ سورة النور تبرئها: ﴿إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [النور: 11]، ثم أعطت الآياتُ التالية درسًا للمسلمين وتأديبًا لهم: ﴿لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ﴾ [النور: 12]، فهكذا ينبغي أن يكونَ تصرفُ المسلمين أنْ يحسنوا الظنَّ بأنفسهم وبأمِّ المؤمنين، ويتورَّعوا عن الاتهامِ أو الحديث به، وقد تمثلت هذه التربية في الصحابي الجليل أبي أيوب الأنصاري - رضي الله عنه - عندما قالت له زوجته: "أمَا تسمع ما يقولُ الناسُ في عائشة؟ فقال: نعم، وذلك الكذب، أكنت فاعلة ذلك يا أمَّ أيوب؟ قالت: لا والله ما كنتُ فاعلة، فقال لها: وعائشة والله خيرٌ منك!"، هكذا يكون حسنُ الظن بأمهاتِ المؤمنين، وهكذا يظن المؤمنون بأنفسِهم خيرًا.

وقد قرع الله بعضَ المسلمين على ما قالوه؛ ﴿إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ﴾ [النور: 15]، وأي شيء أعظم من أن تتهمَ زوجةُ الرسول - عليه السلام - في عرضِها وكرامتها! وأي شيء أعظم من أن يُهان الرسولُ - عليه السلام - في اتهامِ أهله وأحب أهله إليه!
وهكذا بُرِّئت عائشةُ - رضي الله عنها - وباء بالخزي والقذف والحد أولئك الذين جاهروا بالاتهام، وتوعَّد الله من تولَّى كبر هذه الفرية من وراء ستار بالعذاب الأليم.


>>>>> ردود الأعضـــــــــــــــــــاء على الموضوع <<<<<
==================================


عائشة وحفصة:
3- وكان لعائشة ومعها حفصة - رضي الله عنهما - موقفٌ آخر تناوله القرآنُ الكريم، وتنزلت فيه آياتٌ من سورةِ التحريم؛ وذلك أنَّ عائشة وحفصة - رضي الله عنهما - تواطأتا على أن تقولَ أيُّ واحدة منهما يدخلُ عليها النبيُّ - عليه السلام - بعد مجيئه من عند زينب: "إني أجدُ منك ريحَ المغافير - نبت له رائحة مميزة"، ودخل النبي على حفصةَ، فقالت له ذلك، فقال: ((لا، ولكنِّي كنتُ أشرب عسلاً عند زينب، فلن أعودَ له، وقد حلفتُ لا تخبري بذلك أحدًا))، ولكنَّ حفصة أخبرت عائشةَ، وكان هذا التواطؤ أو التظاهر منهما على النبي - عليه الصلاة والسلام - سببًا في نزولِ قوله - تعالى -:﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [التحريم: 1]، ثم قوله - تعالى -: ﴿وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ﴾ [التحريم : 3]، ويوجه الله - تعالى - إليهما (حفصة وعائشة) تهديدًا شديدًا: ﴿إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ﴾ [التحريم: 4]، ووصل هذا التهديد إلى الطَّلاقِ: ﴿عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا﴾ [التحريم: 5]، وبذلك كان هذا الحدثُ درسًا لنساء النبي - عليه الصلاة والسلام - ولنساءِ كلِّ مسلم، أن يحافظنَ على أسرار البيت والزوج، وأن يرعين حقَّه، وأن يبتعدن عن التواطؤ على غيرهن والكيد لهن، وعن التظاهرِ على الأزواج.
هذا مع العلم أنَّ هناك روايتين أخريين تذكرهما كتبُ التفسير في سبب نزول هذه الآيات غير السبب السابق، ولكن حفصة وعائشة رضي الله عنهما شريكتان في كل الروايات.

4- ومن اللواتي نزل فيهنَّ قرآنٌ من غيرِ زوجات النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - خولة بنت ثعلبة زوجة أوس بن الصامت، الذي كان شيخًا كبيرًا وقد ساء خلقُه، ودخل على زوجته يومًا فراجعته بشيءٍ فغضب عليها، وظاهر منها - قال لها: أنت علي كظهر أمي - يريدُ بذلك أن يحرمَها على نفسِه، على عادةٍ كانت سائدةً في الجاهلية، ومع ذلك رجع إليها بعد قليلٍ، فامتنعت منه حتى يحكمَ الله ورسوله فيهما، فواثبها وغلبتْه بما تغلب المرأةُ الشيخَ الضعيف، وأبعدته عن نفسِها، ثم خرجت إلى بيتِ النبي، وذكرت له ما لقيت من زوجِها: "يا رسول الله، أكلَ مالي، وأفنى شبابي، ونثرت له بطني، حتى إذا كبرت سني وانقطعَ ولدي ظاهر منِّي، اللهمَّ إني أشكو إليك"، فجعل النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقول لها: ((يا خولة، ابنُ عمِّك شيخ كبير فاتقي الله فيه، ما أعلمك إلا قد حرمتِ عليه))، فقالت: أشكو إلى الله ما نزل بي وأشكو أبا صبيتي، فرأت عائشةُ وجهَ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قد تغير، إيذانًا بنزول الوحي عليه، فنحتها عنه، ومكث رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - في غشيانه، فلمَّا انقطع عنه الوحي قال: ((يا عائشة، أين المرأة؟ فدعتها، فقال لها رسولُ الله - عليه السلام -: ((يا خولة، قد أنزل الله فيكِ وفي صاحبك، ثم قرأ عليها: ﴿قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ * الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ * وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ * فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [المجادلة: 1 - 4]))، وقال لها الرسولُ - عليه السلام -: ((مُريه فليعتق رقبة))، فقالت: ما عنده ما يعتق، قال: ((فليصمْ شهرين متتابعين))، قالت: والله إنه شيخٌ كبير ما به من صيام، قال: ((فليطعم ستين مسكينًا وسقًا - ستين صاعًا - من تمر))، قالت: يا رسول اللهِ، ما ذاك عنده، فأعانه الرسولُ بثلاثين صاعًا، وأعانته زوجته بثلاثين.

وهكذا كان تصرف هذه المرأة المسلمة وحوارها مع رسول الله - عليه السلام - سببًا لنزولِ هذه الآيات وتشريع الظِّهار، وتأديب الرِّجال الذين يطلِقُون ألسنتَهم بهذه الأقوال الجاهلية من غير تدبر لعواقبها.
وقد لقيتْ خولةُ هذه مرةً عمرَ بن الخطاب في خلافته فاستوقفته، فوقف لها ودنا منها وأصغى إليها رأسَه، حتى أنهت حديثَها وانصرفتْ، فقال له رجل: يا أمير المؤمنين، حبست رجالات قريش على هذه العجوز؟! فقال له عمر: "ويحك! أتدري من هذه؟"، قال: لا، فقال له: "هذه امرأةٌ سمع الله شكواها من فوق سبع سموات، هذه خولة بنت ثعلبة، والله لو لم تنصرفْ عني إلى الليلِ ما انصرفتُ حتى تقضي حاجتَها".
وهكذا كانت هذه المظاهرة من أوس لزوجتِه خولة فرصةً لها ليذكر قصتَها القرآن، وتردد ألسنةُ المسلمين شكواها كلَّما قرؤوا القرآن.

***

وهكذا يستذكرُ المسلمون مواقفَ هؤلاء النسوة؛(1) الصالحات منهنَّ والطالحات، اللواتي تحدثَ عنهنَّ القرآن، كلما قرؤوا كتاب الله ومرت معهم الآيات التي تناولت قضاياهنَّ، فرضي الله عن الصالحاتِ منهنَّ، وجعلهنَّ الله قدوةً للمؤمنات، وأنزل الله على الطالحات منهنَّ ما يستحققن من العذابِ ليكنَّ عبرة للطالحات من النساء.


منقول


__________________________________________________ __________

بسم الله الرحمن الرحيم

نساء تحدث عنهن القرآن (4): ممهّدات لعيسى - عليه السلام

وإذا كان حول موسى - عليه السلام - عددٌ من النسوةِ اللاتي حضنه ورعينه وسِرْن معه، فإنَّ عيسى - عليه السلام - وهو آخر أنبياء بني إسرائيل قد سبقَهُ عددٌ من النِّسوةِ المؤمنات تحدَّث عنهنَّ القرآن، وكل شأنهنَّ الذي أبرزه الله - تعالى - يتمثلُ في التمهيدِ لمعجزة عيسى - عليه السَّلام - تلك المعجزة المرتبطة بولادتِه، وكانت السماتُ البارزة في حياتهنَّ تدورُ حول الولادة!

7- وأولهنَّ جدته لأمِّه امرأة عمران، واسمها: (حنة)، وكانت لا تحملُ، واشتهت أن يكونَ لها ولدٌ، فدعت الله وحملتْ متأخرة، فنذرتْ ما في بطنِها لله، خالصًا لخدمة بيت المقدس، وكانت تتوقعُ أن يكونَ المولودُ ذكرًا، ولذلك نذرته، إلا أنَّها عندما وضعتْ وضعتْ أنثى، وسمتْها: (مريم)، ولكنَّها كانت قد نذرت ما في بطنِها ولم تحدِّد غير ذلك، فلزمها أن تقدِّمَ مولودتَها للمعبد، وهي تعلمُ أنَّ الذَّكرَ أجل وأقدر على خدمةِ المعبد من المرأة، ولكن لا مناصَ من تقديمها للمعبد، ومن قبل أن يقوى عودُها ويشتدَّ ساعدُها، كانت بحاجةٍ إلى من يكفلُها من الصَّالحين المشرفين على إدارةِ شؤون المعبد، ودعت لها وأعاذتها باللهِ من الشيطانِ الرَّجيم، كما أعاذت باللهِ ذريتَها، وكأنها تستشفُّ المستقبل، واستجاب الله لها، فتقبَّلَ مولودتَها وأنبتها نباتًا حسنًا، وجعل كفالتَها لزوجِ خالتها زكريا - عليه السلام - بعد أن اقترعَ مع بقيةِ المشتركين في حجابة البيت؛ لأنَّ كلَّ واحد منهم حرص على كفالتِها وألقوا أقلامَهم في النهر، وصاحب القلم السابق يكون كفيلها، وكان ذلك من نصيبِ زكريا - عليه السَّلام - وعاشت في المحرابِ - غرفة في جدارِ المعبد تُتخذ للعبادة - وعندما شبَّتْ كان زكريا كلما دخَلَ عليها في هذا المحرابِ وجد عندها رزقًا - طعامًا من الفاكهةِ في غير أوانه – فيسألها: من أين لك هذا الطعام؟ فتجيبه: هو من عند الله، كرامة من عندِ الله لهذه الفتاة التي خاطبتها الملائكةُ مبشرةً لها باصطفاءِ الله لها وتطهيرها واصطفائها على نساءِ العالمين.

هذه المرأة الطاهرة المصطفاة هي مريم أمُّ عيسى - عليه السلام - ذرية بعضُها من بعض، ويكفيها فخرًا أنها المرأةُ الوحيدة التي ذكر اسمها صريحًا في القرآن الكريم، ولعلَّ في هذا اصطفاء لها أيضًا.

8- وكان لولادةِ (حنة) امرأة عمران لابنتِها مريم، مع تأخُّرِها في الحمل، ولِمَا رآه زكريا عليه السلام من إكرامِ الله تعالى لمريم في المحراب - أثرٌ على قلبِه المفعم بالإيمان والثقة بالله، وعدم اليأس، فالله قادرٌ على أن يرزقَه الولدَ على رغم يقينِه بأنَّ امرأته - أخت امرأة عمران - عاقر، وعلى رغمِ تقدمِه في السن، فقد وهن عظمُه واشتعل الشيبُ في رأسِه، ولذلك توجَّهَ إلى الله بالدُّعاءِ أن يرزقَه الله ذريةً طيبة، ولدًا تقرُّ به عينه ويرث علمَه وعلم آل يعقوب، وسأل الله أن يكونَ هذا الولدُ رضيًّا، وهكذا استجاب الله لدعاءِ هذا النبي فحملت زوجُه العاقر، وكانت البشرى من الله لزكريا بغلامٍِ وسماه الله تعالى: (يحيى)، وجعله سيدًا وحصورًا ونبيًّا، هذا عطاءُ الله، وهكذا كانت كرامةُ هذه المرأة مرتبطةً بالولادةِ في سنٍّ غير مألوف فيها إنجاب المرأة.

9- والمرأة الثالثة هي مريم ابنة عمران، تلك التي كانت ولادة أمِّها لها كرامة، وحياتها في المحرابِ كرامة، وولادتها لابنها عيسى معجزة في حقِّ عيسى - عليه السلام.
فتاةٌ غير متزوجة تقيَّة نقية، تخرجُ من المعبد الذي نُذرت لخدمتِه متجهة إلى الشرقِ منه، وتحتجب عن أهلِها، فيتمثل لها الملكُ بشرًا سويًّا، فترتعب منه وتستعيذ بالله منه، فإذا هو يعلمُها أنه رسولُ الله إليها ليهب لها غلامًا زكيًّا، وكيف يكون لها غلامٌ وهي لم تتزوج ولم يمسها بشر؟! ولكنها قدرةُ الله وإرادته، فما أهون هذا الأمر! وكان حملها أمرًا مقضيًّا في الحال، وتمتد بها أيامُ الحمل حتى ثقل عليها، فخرجت إلى مكانٍ قصي عن المعبد، وحانت ساعةُ المخاض فألجأها إلى جذعِ النخلة تتكئ عليه، ويعتصر قلبُها أمران: آلام المخاض، والتفكير في موقفها أمام قومِها بعد ولادتِها، فتمنت أن تكونَ قد ماتت قبل هذه الحالة ونسيها الناس، وجاءها المددُ والغوث من عالم الغيب وواقع المعجزات، فتسمع كلامًا من هذا الوليدِ أو من الملك يربطُ على قلبِها ويهدئ روعها: لا تحزني، فتحتك نهر يزيلُ عنكِ أوضارَ الولادة، وفوقك طعامُ رُطَبٍ جني يتساقطُ عليك إذا هززتِ جذعَ النخلة! ويعلمها كيف تواجه قومَها في هذا الموقفِ العصيب، بلا كلام، إشارة باليدِ إلى المولود وكفى، وهو يتولَّى الدفاعَ عنها، مولود في أيامه الأولى يدافعُ عن أمِّه بلسانه! بكلامه! معجزة تلي معجزة، معجزة ولادته من غيرِ أب، ومعجزة كلامِه في المهد! ﴿قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا﴾ [مريم: 30]، كلامٌ حازم يسمعونه بآذانهم يبرئ أمَّه، ويعلمهم بعبوديتِه لله، وجعله نبيًّا يتنزل عليه كتابُ الله، هل اقتنعَ بنو إسرائيل بكلِّ هذه الدلائل، وهذه المعجزات؟

إنَّ القلوبَ القاسية تستعصي على الإيمانِ والتصديق، فاتهموا مريمَ التي رافقت ولدَها في أيامِ حياته العادية متنقلةً به من مكانٍ إلى مكان خوفًا من الحكامِ الظلمة، وخوفًا من الكهنةِ الذين يأكلون الدنيا بالدين، وينكرون معجزاتِ ربِّ العالمين، ولا يصدقون بزكريا ويحيى وعيسى، وهكذا أحاطت بحياةِ عيسى - عليه السلام - هذه الكوكبةُ من النِّساءِ اللاتي كانت كراماتُهنَّ مرتبطةً بطبيعة معجزة عيسى الكبرى؛ الولادة غير المعتادة، ولادة بعد عقم، ولادة بعد كبر، وولادة من غير أب! فسبحان الله الذي يؤيد رسله بالمعجزات!


__________________________________________________ __________

بسم الله الرحمن الرحيم


نساء تحدث عنهن القرآن (3): من حاضنات موسى إلى بلقيس



وهناك كوكبةٌ من النِّساءِ الصالحات المتعاصرات تحدث عنهنَّ القرآنُ الكريم وعن أدوارِهنَّ في حماية ورعاية أحد أولي العزم من الرسل؛ إنه موسى - عليه السلام. فقد شارك في حياتِه خمس نسوة طاهرات عفيفات تحدث عنهنَّ القرآن:

4- أولهن أمه: تلك المرأةُ الممتحنة مع نساء قومها بمحنة ذبحِ الفرعون "رعميس" الثاني للذكورِ من بني إسرائيل، وكان قد رأى رؤيا فُسِّرت له على أنَّ رجلاً من بني إسرائيل ستكونُ على يديه نهاية ملك فرعون، أو أنَّ قوم فرعون قد سمعوا من بني إسرائيل بعضَ النبوءات التي توارثوها عن أنَّ رجلاً منهم ستكونُ لهم به دولة ومنعة، فأمر فرعون بذبحِ المواليد الذكور وإبقاء الإناث على قيدِ الحياة، وعندما ولدت موسى أمُّه خافت عليه وتوقعت أن يأتي الذبَّاحون من جندِ فرعون فيذبحوه، فأوحى الله إليها أن ترضعَ ولدَها ثم تضعه في تابوت (صندوق) وتلقي به في نهر النيل (اليم)! موقف عصيب على أمٍّ تخافُ على ابنها من الذَّبحِ بغير يدها، فتلقي به بيدِها في الماء! ألا تخشى عليه من الغرقِ أو من أن تأكلَه التماسيحُ والأسماك؟! ولكن إيمانها بالله دفعها إلى تفويضِ أمرِها وأمر ابنها إليه، وقد جاءتها البشرى في هذا الوحي بأمرين: أنَّ الله - تعالى - سيردُّه إليها، وأنه سيجعلُه من المرسلين.

وجرى الصندوقُ في الماء يتهادى، وتسوقه الأمواجُ والتيارات إلى القناةِ التي تدخل إلى قصرِ فرعون! ويعثر عليه، ويتعلق قلبُ امرأة فرعون به وينشرح صدرُها له، ويبدو أنها كانت محرومة من الولد، فكان لها سلوى وعزاء بل ألقى الله عليه المحبة منه فما رآه أحد إلا أحبه، ووقفت تدفعُ عنه الموتَ؛ ﴿لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا﴾ [القصص: 9]، فقد قرَّتْ به عينُها، ونجاه الله - تعالى - بذلك من الذَّبح، وفتح له قصرَ فرعون ليعيشَ فيه.

وكان قلقُ أمِّ موسى على ولدِها يطغى على قلبِها حتى كادت تعلن على ملأ فرعون أنَّ لها ولدًا، ولكن ربط الله على قلبِها فثبتتْ، وكلَّفتْ ابنتَها - أخت موسى - باقتفاءِ أثر أخيها.
وتراه أخته يمتنعُ عن التقامِ أثداء المراضع، فتدخلت ودلَّتهم على من يستطيعُ إرضاعه، وأخذتهم إلى أمِّها فأقبل على ثديها، وأصبحت بذلك مرضعة له وبأجرٍ من امرأةِ فرعون، وتحقَّقَ وعدُ الله لها برده إليها في آخر النهار، الذي قذفته في أولِه في اليم، وعاش في حضنِ أمِّه التي أنجبته، وبرعاية امرأة فرعون التي أنقذته، وبسعي أخته التي عملتْ على ردِّه إلى أمه.

وعند هذا الحد ينتهي دورُ هؤلاء النسوة الثلاث اللاتي عملنَ بمشيئة الله على إيصالِ موسى إلى برِّ الأمان، وقد تحدَّثَ القرآنُ الكريم مرة أخرى عن امرأةِ فرعون، وجعلها مثلاً للذين آمنوا ﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ [التحريم: 11]، هذه المرأةُ المؤمنة صبرت على كفرِ فرعون وظلمه وادعائه الألوهية، ووجدت في موسى الطفل الرضيع قرةَ عينٍ لها، وتوقعت أن يكونَ أيضًا قرة عين لفرعون، ويأبى عليها فرعون ذلك ويقول لها: "هو قرةُ عين لك، فأمَّا لي فلا حاجةَ لي فيه"! وقد كان الأمر كذلك، فقد قرَّت عينُ امرأة فرعون بموسى ودعوته.

5- وهناك امرأتان أخريان لهما دورٌ في حياة موسى - عليه السَّلام - فعندما خرج موسى من مصر خائفًا يترقَّبُ انكشافَ أمرِه في مقتلِ الرجل المصري، وصل إلى ماء مدينَ ووجد امرأتين تذودان غنمَهما عن الماء، تنتظران انتهاء الرعاة من سقي أغنامِهم، فساعدهما موسى على سقايةِ دوابهما قبل أن يأتي الرعاةُ ويستقوا، فانصرفتا إلى والدِهما الشيخ الكبير مبكرتين على غير عادتِهما في التأخرِ بالعودة إلى البيت، وعلم منهما أنَّ رجلاً غريبًا قويًّا استطاع أن يمتاحَ من البئرِ وحده، وأن يسقيَ الدَّوابَّ قبل قدوم الرعاة، وأعجب الشيخُ بقوة الرجل الغريب، وطلب من ابنتَيْه أن تستدعي الرجلَ ليكافئه الشيخُ على ما فعل، فجاءته تمشي على استحياءٍ وطلبت منه المسيرَ معها إلى أبيها، ورغبت هذه الفتاةُ إلى أبيها أن يستأجرَ هذا الشابَّ القوي الأمين لرعي المواشي وإراحةِ البنتين من ذلك، وتم الاتفاقُ بينهما على أن يتزوجَ إحدى البنتين على أن يخدمَ الشيخ ثماني سنوات أو عشرًا.

وكانت هذه الزوجةُ معه عندما سار بأهلِه عائدًا إلى بلدِه وآنس نارًا، ثم تلقى عندها الوحي بالنبوةِ والرسالة، وأُيِّد بمعجزةِ العصا واليد، ولم يكن لهذه الزوجة ولا لأختِها أكثر من هذا الدور الذي شكَّلَ مرحلةً من مراحل حياة موسى - عليه السَّلام.

6- وفي مرحلةِ استقرارِ مُلك النبي سليمان - عليه السلام - وامتداد هذا الملك إلى حدٍّ ﴿لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ﴾، ظهرت في السَّاحةِ امرأةٌ تحدَّثَ عنها القرآنُ وأطال الحديث، إنها ملكة سبأ "بلقيس"، تلك الملكة التي أُوتيت من كلِّ شيء ولها عرشٌ عظيم، كانت تحكمُ بلادَ اليمن "سبأ" في بيئةٍ وثنية، تعبد وقومُها الشمس، وعندما علم سليمان - عليه السلام - بهذه الحقائق أرسلَ إليها رسالةَ دعوةٍ يدعوها وقومها فيها إلى الانصياعِ لدولته: ﴿أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ﴾ [النمل: 31]، وعرض عليهم الإسلامَ والتخلي عن عبادةِ الشمس: ﴿وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ﴾، فهو لم يكن يهدف إلى التوسعِ في السُّلطان فقط، ولكن له هدفٌ آخر أسمى؛ ذاك هو نشر الإيمانِ بالله.

وهذه المرأة التي كانت بدايتها وثنية، كانت سياسية ماهرة، تعرفُ كيف تتعامَلُ مع ذوي السلطات، فأرسلت إلى سليمانَ هديةً ثمينة، وأموالاً تختبره بها: هل هو رجل سلطان ومادة، أو رجل مبدأ وعقيدة؟
ولكنه رفضَ هذه الرشوة فقال: ﴿أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ﴾ [النمل: 36]، ﴿بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ* ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا﴾ [النمل: 36 ، 37]، وهذا تهديدٌ حازم أرغمها على الحضور، وعرض عليها عرشَها الذي استحضره قبل وصولِها، وأدخل عليه بعضَ التعديلات السريعة ليختبرَ ذكاءها، فلم تنكرْه ولم تدَّعِه، بل قالت: ﴿كَأَنَّهُ هُوَ﴾ [النمل: 42]، ثم اختبرها اختبارًا هامًّا ليحطمَ مفاهيمَها الوثنية بطريقةٍ علمية، فأدخلها الصَّرح، وهو بناء أرضه من زجاجٍ صقيل صاف تجري تحته المياه، فحسبته ماءً جاريًا أمامها، وظنتْ أنها سوف تخوضُ هذا المجرى المائي، فشمَّرت ثوبَها عن ساقيها لكي لا يبتل بالماء، وهنا تبيَّنَ لها أنَّ هناك موجوداتٍ لا تراها العين (الزجاج الصافي)، فقد خدعتها العينُ إذ رأت الماءَ ولم تر الزجاجَ فوقه، وإذا كانت تعبد الشمس لأنها تراها، فهناك الله الذي خلقَ الشمس ولا تدركه الأبصار، ولذكائها فهمت الفكرةَ، وهنا أعلنت خطأها، فقالت كلمةَ الحقِّ واعترفت بأنها ظلمتْ نفسَها؛ إذ كانت تعبد الشمسَ من دون الله؛ ﴿قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [النمل: 44]، وانتقلت بذلك من الوثنيةِ إلى دينِ التوحيد، بعد أن استعملَ سليمانُ - عليه السلام - معها طريقةً عملية، مستغلاًّ ما مكنه منه الله - تعالى - من صناعاتٍ وتقدم حضاري.

وهكذا صارت بلقيس امرأةً صالحة مؤمنة في موكبِ النِّساء المؤمنات اللاتي تحدَّثَ عنهنَّ القرآن.


__________________________________________________ __________

بسم الله الرحمن الرحيم


نساء تحدث عنهن القرآن (2): من حواء إلى امرأة العزيز!




عرضتُ في عددٍ سابق إلى النساء الطالحات اللاتي تحدث عنهنَّ القرآنُ الكريم؛ لنأخذ من مآلهنَّ في الدنيا والآخرة العظةَ والعِبْرة، وإذا كان عددهنَّ قليلاً فإنَّ عدد النساء الصالحات اللاتي تحدث عنهنَّ القرآنُ الكريم كبير، وهن جميعًا جديرات بأن تتخذهنَّ المسلمات قدوةً لهن في أعمالهن الصالحة ومواقفهن العظيمة.

1- وأول من تحدَّثَ عنها القرآنُ الكريم منهنَّ أمنا حواء:
التي لم يذكرها القرآنُ الكريم بالاسم، إنما ذكرها على أنها زوجُ أبينا آدم - عليه السلام. وقد كانت سكنًا لزوجها، وجد عندها الاستقرارَ النفسي والمودة في الجنة، وكان لها دورٌ إلى جانب دور آدم في الخروج من الجنة والهبوط منها للعيش في الأرض، مع تحملِ العناء والشقاء في سبيل الحصول على حاجاتهما الضرورية، بعد أن كان ذلك موفرًا لهما في الجنة من غيرِ شقاء.

وإذا كانت كتبُ غيرِ المسلمين تحمل حواء وحدها المسؤولية في هذا الخروج، فتدَّعي أنَّها هي التي أكلت، وهي التي أغرتْ وأغوت آدمَ على مخالفة الأمر الإلهي، فإنَّ القرآنَ الكريم يجعلهما شريكين في المسؤوليةِ عن هذه المخالفة ﴿فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ﴾ [البقرة: 36]، ﴿فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا﴾ [الأعراف: 20]، وأحيانًا يفردُ آدم بالمسؤولية، فيقول: ﴿فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى﴾ [طه: 120]، واشتركا في مسؤولية الأكل فأكلا منها، ولما ذاقا الشجرةَ بدت لهما سوءاتُهما، واستحقَّا بهذه المخالفةِ الإخراج من الجنَّةِ والشقاء في الأرض.

ولذلك فإنَّ النظرةَ الإسلامية إلى المرأةِ ومسؤوليتها الإنسانية ليست بحدةِ نظرة اليهود والنصارى، ويكنُّ الإسلامُ والمسلمون للمرأة كلَّ احترام وتقدير، ولا يحمل الذكورُ الإناثَ المسؤوليةَ الكبرى في شقاء البشرية في الحياة الدنيا، ولعلَّ شقاء الإنسان وتعبه في الأرض هو الذي طوَّرَ الوسائلَ، ودفع إلى الابتكار وإنتاج الحضارة المادية، والله خلق الخلقَ ليستعمرَهم في الأرض، وقد عمرها بعضُهم أكثر من بعض، فلا ينبغي أن يحسبَ الخروج من الجنَّةِ جريمة بحقِّ البشرية التي لم يكن لها أن توجدَ لو بقي آدم وزوجه في الجنة، وإن كان هذا الإخراجُ عقوبةً على ظلمٍ وقع فيه الزوجان ومخالفة لأمر الله استحقَّا عليها هذه العقوبة.

2- سارة وهاجر:
ومن النساءِ اللواتي أثنى عليهنَّ القرآنُ الكريم سارة، زوج إبراهيم الخليل - عليه السلام - وهاجر أم إسماعيل.
أمَّا سارة فهي من قريباتِ إبراهيم - عليه السلام - وقد آمنتْ وهاجرت معه إلى فلسطين، وقد قدَّمَ لها ملك مصر امرأةً لتخدمَها وتكون جارية لها؛ هي هاجر (أم إسماعيل)، وعندما أحستْ بتقدمِ سنِّها وبلوغها سن اليأس (عجوز عقيم) - ولحبِّها لزوجِها - زوَّجته من جاريتها لعلَّ الله يرزقه منها غلامًا، وقد كان ذلك، فقد حملت هاجر وولدت لإبراهيم إسماعيل - عليهما السلام - وأوحى الله إلى إبراهيم ما أوحى، فأخذ هاجرَ وابنَها إسماعيل من فلسطين إلى الحجازِ إلى الوادي غير ذي الزرع، إلى حيث مكة الآن، كما أمره الله - تعالى، وليس كما تقولُ التوراة متجنِّية على سارة؛ بأنَّها غارتْ منها، فطلبتْ من إبراهيم أن يطردَها ويرميها في برية بئرِ السَّبع، فهم يقولون في التوراة: "ورأت سارةُ ابنَ هاجر المصرية يمزح، فقالتْ لإبراهيم: اطرد هذه الجاريةَ وابنَها، فقبح الكلام جدًّا في عيني إبراهيم بسبب ابنه، فقال الله لإبراهيم: لا يقبح في عينيك من أجلِ الغلام ومن أجل جاريتك"!

كما أنهم يسيئون لهاجر، فيزعمون أنها "لما رأت أنها حبلت صغرت مولاتها في عينيها، فأذلتها ساراي، فهربت من وجهها"، عجبًا كيف يسيئون لامرأتين صالحتين، فهاجر زوجة إبراهيم وهي امرأةٌ مؤمنة بالله وثقتُها به عظيمة، فهي عندما تركها إبراهيمُ مع رضيعِها في وادٍ غير ذي زرع (مكة) قالت له: آلله أمرَكَ بهذا؟ قال: نعم، قالت: إذًا لا يضيعُنا، وسارة امرأةٌ مؤمنة، وزوجةُ أبي الأنبياء أجلُّ وأسمى من أن تتصرَّفَ هذا التصرف، وتطلب من زوجِها أن يلقيَ في المهالك ولدَه وحيده يومئذ، وأمَّه! ولكن الذين يحرِّفون الكتابَ أو يكتبونه بأيديهم، يجعلون (أمَّهم) سارة بهذا الخلق السيئ، وهذا ديدنهم.



يتبع


__________________________________________________ __________

فسارةُ مؤمنة، يقول لها إبراهيم وهما في مصر: "والله ما على الأرضِ مؤمن غيري وغيرك"، وتظهرُ لها الملائكة - ضيف إبراهيم - بصورةِ الضيوف، ويبشرونها بإسحاق، ومن وراءِ إسحاق يعقوب، ولدًا لها تقرُّ به عينُها، وتسعد بحفيدِها منه، ويمجدها القرآنُ الكريم بمخاطبةِ الملائكة لها؛ ﴿قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ﴾ [هود: 73]، هذه المرأة الكريمة المباركة تحملُ أحقادَ النِّساء العاديات على ضرائرهن؟! وأغرب من ذلك أنَّ الله تعالى - في ادعائهم - يستجيبُ لأهواءِ سارة، ويرفض عدالة إبراهيم ورحمته بابنه، فإذا قبح طلبها في عيني إبراهيم فالله يقولُ له: لا يقبح (ذلك) في عينيك من أجلِ الغلام ومن أجل جاريتك!

وكاتبو التوراة يرون في أخذِ إبراهيم لهاجر وابنها إسماعيل إلى فاران (مكة) طردًا استجابةً لغيرة سارة، وأمَّا المسلمون فيرون كما قال الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنه أخذها إلى هناك استجابةً لأمرِ الله الذي طلبَ منه أن يسكنَها عند بيتِه المحرم ليقيموا الصلاة، فما أكبر الفرق بين نظرةِ المسلمين إلى هاجر وسارة وتقديرهم لهما، وبين النَّظرةِ الدنيَّة لكتبةِ التوراة إليهما.

3- امرأة العزيز:
وهذه امرأةٌ شغل الحديث عنها آيات كثيرة من سورة يوسف، إنها امرأة كانت ترفلُ في ثيابِ الترف والنعيم، وتتسلح بقوةِ السلطان، وتنهل من متعِ الحياة؛ حلالها وحرامها، فلا يمنعها مانعٌ أخلاقي من مراودةِ فتاها يوسف في صباه وجماله، ويحطم كبرياءها بعفتِه وورعه، فتتهمه بما ترتكبُه من إثم، وتزداد إصرارًا على إغوائه عندما يشيعُ خبرُها بين نساءِ المدينة، فتحيك له المؤامرةَ معهنَّ حتى يدخلنه السِّجن، لامتناعه عن مطاوعتهنَّ على الرذيلة، ولكنَّها وبعد بضعِ سنين تقف موقفًا فيه جرأة وصراحة، وفيه ندم واعتراف بالذَّنب (وتوبة)، وتبرئة لساحةِ يوسف - عليه السلام.

﴿قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ﴾ [يوسف: 51]، إنه اعترافٌ بالذنب وتبرئة لمن اتهمته وأدخلته السجن بريئًا، وزادت على ذلك أنْ علَّلتْ موقفَها هذا وعودتها إلى الحقِّ والصواب، فهي تكنُّ له كلَّ احترامٍ وتقدير، فتقول: ﴿ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ﴾ [يوسف: 52]، وتعليل آخر تورده: ﴿وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ﴾، فهي تتراجعُ عن كيدِها ومؤامرتها عليه، وتعلن أنَّ الله هو الذي أحبطَ كيدَها، وهذا دليلٌ على أنها مؤمنةٌ بالله، وأنَّ الله غفورٌ رحيم وهو ربها؛ ﴿إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [يوسف: 53]، ولا تنسى أن تتواضعَ وتنفي عن نفسِها البراءة؛ لأنَّ النفسَ أمارة بالسوء: ﴿وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي﴾.

(...) ففي حياةِ هذه المرأة عبرةٌ ودرس لمن يغويهنَّ الشيطان، فيبدأن حياةَ مجون ورذيلة وكيد وقذف واتهام، فمهما أسرفنَ على أنفسهنَّ، فالطريق إلى الله وإلى الصَّلاحِ واسع مفتوح، ورحمة الله واسعة لا يقنتُ منها العاقلات، وباب التوبة مفتوح تلجه كلُّ ذاتِ لبٍّ بعد أن تقرَّ بالخطأ وتتراجع عنه وتصدق نيتَها، وتبدأ حياة جديدة كلها إيمان وصلاح وتقوى وورع.